لماذا تقلصت معالم الحضارة العربية الإسلامية ؟

الخليج اليوم – قضايا إسلامية الخميس 7-أغسطس-1986 م

إن الإسلام نظام إلهي عالمي ، وهو يقوم على عقيدة إلهية عالمية وأن دولته دولة عالمية إنسانية لا دولة محلية عنصرية ، وحين نشأت الأمة الإسلامية في الحلقة الأخيرة من سلسلة الرسالات الإلهية عن طريق الوحي السماوي على الأنبياء والرسل ، واختتمت تلك السلسلة ، بخاتم المرسلين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، نشأت قوية ومنطلقة بإيمان راسخ وسلوك نبيل نحو العالمية في نطاق إنسانية شاملة ، وإنما كان ذلك الانطلاق لنشر دعوة الإسلام في العالم بدون أي تفريق بين الشعوب والدول ، وبين أسود وأبيض والغني والفقير ، وكلما فتحت دولة أو منطقة للمسلمين كانوا يقيمون فيها دولة عادلة إنسانية بدون أن يكرهوا أحدا على اعتناق الإسلام إذ “لا إكراه في الدين” ، ويعيش في كنف تلك الدولة الإسلامية جميع الناس أيا كان عقيدته أو جنسيته أو لونه ولغته وبدون تفريق ولا تمييز وبلا ضغوط وتقييد .

وفي ظل الدولة الإسلامية لم يكن هناك فاتح ومفتوح وغالب ومغلوب ، وإنما الجميع رعايا لدولة واحدة يحكمهم نظام واحد وهو شريعة رب العالمين المطابقة لفطرة العالمين جميعا .

والدليل على عالمية الحضارة الإسلامية وإنسانيتها يتبين من المقومات والمكونات الأولى لبناء تلك الحضارة ، وأن كل الشعوب التي عاشت تحت ظلال الدولة الإسلامية ساهمت في رسم معالم الحضارة الإسلامية المعروفة ، وأنها اتحدت واندمجت في بوتقة إطارات تلك الحضارة الإسلامية تحت راية اللغة العربية والنظام الإسلامي ، وذابت مظاهر وملامح تلك الشعوب التي كانت مختلفة عرقا وجنسية ولونا ولغة في شخصية الحضارة العربية الإسلامية في وحدة ثقافية ، ذات تماسك عجيب ورائع .

ومن الحقائق التاريخية التي لا يختلف فيها اثنان من أولى العلم والعرفان ، أن العرب والمسلمين قد أقاموا بفضل الإسلام ، حضارة بهرت العالم وأنارت الدنيا وكانت – حقا وفعلا – الأساس للحضارة الغربية المعروفة الآن وتقدمها العلمي والثقافي وأن الإسلام نظام قائم على العقل الفكر والعمل ، وأن هذا النظام يحول المتمسك به إلى مفكر وعالم وعامل مؤثر في مجتمعه وبيئته وعالمه الذي يعيش فيه ، لأنه نظام حركي ، ومنهج عملي ، وواقع حقيقي لا مكان فيه للعاطل ، والخامل ولا للجاهل والكسلان ، ولهذه التعاليم كلها أقبل العرب والمسلمين الأوائل الذين كانوا يحملون مشاعل النظام الإسلامي المبهر إلى العالم ، على الحياة الدنيا بهمة ونشاط وحيوية ، وما كانوا يلجأون إلى السلبيات والسطحيات بل أخذوا أسباب الحياة وجعلوا لها مقاييس صحيحة وصارت غايتهم إعلاء الحق والصدق والأمانة في الأرض لتنال الإنسانية سعادتي الدارين ، وهم كانوا يبتغون بذلك نوال رضوان الله تعالى وترك أثر طيب لحياتهم في هذه الدنيا تذكرة الأجيال ويجزيهم الخالق المتعال في الآخرة ، وقد كانوا يؤمنون إيمانا راسخا : “وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ، وأن سعيه سوف يرى” .

وهكذا ظهرت بأيدي العرب المسلمين ، خلال فترة وجيزة من عصر البعثة المحمدية حضارة وضاءة ومدنية بديعة لم يشهد لها العالم مثيلا حتى الآن ، وقد صهرت تلك الحضارة خلال سنوات معدودة وبهرت وأنارت كل الشعوب التي دخلت في حظيرة دولة الإسلام من العرب والعجم والروم والبربر والهند والافارقة وأوربيين ممن تباينت لغاتهم وعاداتهم وثقافاتهم ودياناتهم ، وأصبحوا أمة موحدة الدين والثقافة واللغة والقوانين ، وأن هذه المعجزة الحضارية لم تتحقق – ولن تتحقق – في أي عصر من عصور الإنسانية لأية أمة من أمم الأرض ، وأن هذه المعجزة قد أدهشت عقول أعداء الإسلام ، وبدأوا البحث عن أسارارها وإدراك كنهها ، لكي يهدموا دعائمها من الداخل ويشوهوا معالمخا من الخارج ، وأصبحت تلك المحاولة غريزة موروثة لهم ! .

أثر الانفصام

نرى اليوم آثار تراجع الدورة الحضارية عند العرب المسلمين ، وتقلص نفوذها في حياتهم الفكرية والاجتماعية ، ونراهم منبهرين لكل ما يأتي من الغرب من مظاهر حضارتهم وثقافتهم كأن الأمة العربية والإسلامية ليس لها كيان مستقل وشخصية متميزة ، وفي مقدمة أسباب هذا التراجع هو لانفصال بين الإسلام والمسلمين وبعبارة أخرى أن المسلمين اليوم يتخذون الإسلام كمجرد فكرة ونظرة ولا يطبقونه في مرافق حياتهم لا يتخذونه كأسلوب الحياة ونظام لسلوك أو القول والعمل من أول عوامل انحطاط الدورة الحضارية للأمة الإسلامية ، وأخطرها أثرا أشدها فتكا لكيان حضارة العرب المسلمين ، وهكذا قد أصبح المسلم اليوم أجوف من الداخل ويعيش في زيف وتناقص مع إسلامه ، وما لم يتحصن من داخله يتلوث بجراثيم الغزو الفكري والحضاري والثقافي ، ويعيش فارغا من أصالته ومهزوزا في شخصيته وحضارته ، ومنبهرا بكل ما هب ودب من الغث والسمين ! .

الغزو الخارجي لعزل الحضارة الإسلامية من أصولها وميزاتها

إن العرب والمسلمين يواجهون اليوم بلا شك وبلا شبهة ، عمليات غزو فكري وثقافي وحضاري من الخارج تساندها الجبهات الثلاث المركزة :

1 – الأطماع السياسية في تفريق الأمة العربية الإسلامية وتقسيم دولها وثرواتها بين الدول الاستعمارية – الاستغلالية .

2 – الجهات الحضارية والثقافية الني تريد أن ثبت حضارتهم وثقافتهم الخاصة في العالم ، وأن تجتث جذور الحضارات الأخرى وخاصة القوية الثابتة منها على أسس متينة ، وما لم تهتز دعائم تلك الحضارات لن يكون هناك اتساع وامتداد هذه الحضارات والثقافات التي يريدون تثبيتها في أركان العالم بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة .

3 – العناصر المادية الإلحادية ، لأنها ترى في الحضارة الإسلامية مبادئ الإيمان وأصول الدين وقيم الأخلاق الفاضلة وهذه الدعائم التي تقوم عليها الحضارة الإسلامية لا تتمشى مع أنظمتها المادية والإلحادية ، ولا يكون فيها مكان للإباحية المطلقة والفوضى الخلقية بل فيها مبادئ وقيم لتنظيم العلاقات بين إنسان وإنسان ، في كل المستويات والمراحل ، على أساس الحق والعدل والإنسانية لا على أساس مجرد المصالح المادية والمنافع الشخصية فإن انتشار الحضارة الإسلامية معناه تصحيح السلوك الزائف المصطنع إلى سلوك عادل وصريح يكون فيه الظاهر مطابقا للباطن ، ويكون فيه الإنسان مستقيما ومستنيرا ، ولا يكون مداهنا ومنافقا .

وهذه العناصر الثلاث تعمل جاهدة بالاتفاق حينا وبالانفراد حينا آخر ، لتشويه وتعطيل الحضارة العربية الإسلامية التي بهرت يوما العالم وأنارت الدنيا ، وكانت فعلا وحقا الأساس لتقدم الغرب ، وأعطت للبشرية “خير أمة أخرجت للناس” وهذا المفهوم للحضارة العربية الإسلامية هو الذي يؤرق أعداء الإسلام ، وفي الحقيقة هم أعداء الإنسانية ، من الصهاينة والمستعمرين والمبشرين والمستبشرين ، لأنهم يعلمون ما يسخرون من حطام الدنيا ومتعها ، من ازدهار وانفجار الحضارة الفاضلة الشريفة .