غاية المسلم في هذه الحياة تحقيق العبودية لله وحده وتعمير الكون وفقا لمنهجه

الخليج اليوم – قضايا إسلامية الخميس 18-سبتمبر-1986 م

خلق الله سبحانه وتعالى الكون بقدرته وإرادته ومشيئته وجعل للكائنات كلها نظاما وميزانا وفطرة لا يتبدل ولا يتغير وقد جعل لكل شيء قدرا ، ثم خلق الإنسان فسواه فعدله وفي صورة ما شاء ركبه ثم يسره إلى صراط مستقيم ، وجعل له السمع والبصر والفؤاد ، وقدر رزقه وأجله وخلق الحياة والموت ليبلوه في شكره أو كفره لخالقه وربه ومالكه .

فقال رب العزة مبينا خلقه وتدبيره في كتابه الخالد الذي أنزله نورا وبصيرة لأولي الألباب وذوي الأفهام :” الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون ، يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون ، ذلك عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم ، الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ، ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون” (السجدة : 4-9) .

وبعد أن بين الخلق والتدبير أشار سبحانه وتعالى إلى غاية خلقه الإنسان ومنحه الطاقات والقدرات التي يمتاز بها عن سائر المخلوقات وأعطاه قوة التفكير والاختيار ومعرفة الحق والباطل والسير في الطريق السوي في حياته الدنيا ، وبناء على هذه الميزات الخاصة سخر سبحانه وتعالى الكائنات كلها لهذا الإنسان فأعلن :”وسخر لكم ما في السماوات والأرض” واختاره لأداء مسؤولية الأمانة التي حملها بعد أن أبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن منها فقال تعالى :”إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا” (الأحزاب : 72) . ولأداء هذه الأمانة يحتاج الإنسان إلى العلم والعقل وحرية الاختيار فأعطاه رب العالمين هذه الصفات اللازمة الثلاث ، “فعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملئكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء أن كنتم صادقين، قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، قال يا آدن أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني اعلم غيب السماوات والأرض ، وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون، وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين” (البقرة : 31-34) ، وهكذا فضل الله سبحانه وتعالى الإنسان بالعلم على الملائكة وأمرهم بالسجود ، ثم يقول عن تفضيل الإنسان بالعلم ووسائله إذ أعلن في أول ما نزل من الوحي على خاتم الأنبياء والرسل محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم :”اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق ، اقرأ وربك الأكرم ، الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم” ( العلق : 1-5) ، وبين فيها سبحانه وتعالى أهمية العلم ، وربطه بخلقه وربوبيته وأرشد إلى أهم وسائل العلوم إلا وهو القلم وإلى طريقته المعهودة للتعليم والتعلم والدرس والتدريس وهي القراءة والكتابة .

وأما امتيازه بنعمة العقل فأشار إليه القرآن إذ قال “لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم آذان لا يسمعون بها ولهم أعين لا يبصرون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل” ، وتدل هذه الآية على أن العقل الواعي الفاهم هو الفارق بين الإنسان والأنعام فالذي لا يستخدم عقله الذي منحه الله تعالى في أحسن الطرق وأفيدها سوف يحسب من بين البهائم التي لا تتمتع بهذه الصفة المميزة ، ثم قال القرآن في معرض الكلام عن ارتباط التكليف بالعقل والتعقل ، والمسؤولية التكليفية التي تترتب على امتلاك الإنسان نعمة العقل : “وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير” (الملك : 10) .

وقال القرآن عن ميزة الحرية ونعمة الاختيار :”ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها ، قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها” (الشمس : 10) ، ثم بين ارتباط التكليف بقدرة الاختيار والقدرة على العمل بموجبه فقال :”لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ، لها ما كسبت وعليها مااكتسبت” (البقرة : 286) .

لا صدفة ولا سدى في خلق الإنسان

هناك ادعاء سخيف يتبادر إلى أذهان بعض البسطاء ويتشدق به بعض السفهاء ويردده بعض البلهاء في غياب العقل السليم والفهم الصحيح ، وفي غمرة الفوضى الفكرية والبيئة المائعة والبعيدة عن جدية التفكير ورؤية الحقائق في سكرة المتاهات والخلاعة وفي حيرة النظريات الفارغة والأفكار الواهية والتهافت على حطام الدنيا الفانية والتباعد عن صمام الأمان وزمام الميزان في مجال الحياة ، وإنما هو ادعاء سخيف للغاية وتافه في النهاية وغريب في منظار الفطرة الإنسانية ولو أن صياغته تختلف حسب التحريفات والتلميحات اللفظية أو التعبيرية فخلاصته : إن هذا الكون بما فيه الإنسان قد جاء إلى الوجود بالصدفة وبلا موجد وخالق ، ويكمل المخرفون زيفهم ويقولون : إن هذه الحياة الدنيا إنما هي البداية والنهاية فلا حياة أخرى ولا بعث ولا نشور ولا حساب ، ويرددون مقولة أسلافهم الجاهلين البلهاء : “وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون” (الواقعة : 48) ، وقالوا أيضا :”إن هي إلا موتتنا الأولى وما نحن بمنشرين” (الدخان : 35) ، ويقول القرآن الحكيم ردا على سفاهات أولئك الشاكين والمتشككين وتنبيها لعقولهم إلى التفكير المستقيم : “نحن خلقناكم فلولا تصدقون أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون ، نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون ، ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون ، أفرأيتم ما تحرثون ، أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون ، لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون ، إنا لمغرمون ، بل نحن محرومون ، أفرأيتم الماء الذي تشربون ، أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون ، لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون ، أفرأيتم النار التي تورون ، أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشؤون فنحن جعلناها تذكرة ومتاعا للمقوين ، فسبح باسم رربك العظيم” (الواقعة : 57-74) ، وكفى للعاقل المنصف في التفكير وفي تقييم الأمور أن يعي هذه الآيات المحكمة لمعرفة بعض الحقائق عن الخلق والخالق ولإزالة الغياهب عن مواقع الخلائق في هذا الكون الواسع .

وبعد أن بين خالق الإنسان والكائنات المسخرة له حقيقة المخلوقات المحيطة به ومكانته في الكون ، وفطرة الحياة على هذا الكوكب الأرضي ، يرشده لإلى معرفة الغاية القصوى من حياته والتي خلق من أجلها فقال “أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون” ، ثم قال :”أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى ، ثم كان علقة فخلق فسوى ، فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى ، أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى” ، وبعد أن فتح القلوب ، ونبه الأذهان وكشف الغطاء عن الأبصار وأزال الغشاوة عنها أرشده إلى الطريق الموصل إلى غايته من خلقه ، والمؤدي لأمانته في حياته والمحقق لنجاته بعد مماته والموجب لمرضاة ربه وجناته فقال رب الرحمة لعباده : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون” (الذاريات : 56) .

وقال أيضا : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ، وأن سعيه سوف يرى ، ثم يجزاه الجزاء الأوفى ، وأن إلى ربك المنتهى” .

كيف تتحقق العبودية لله وحده

ومن الحقائق الثابتة من مقتضيات النواميس الفطرية السليمة التي فطر الله الناس عليها وأقام نظام الكائنات بها واهتدى إليها كل عقل سليم وفهم صحيح وفكر عميق ، أن لهذا الكون خالقا مدبرا وهو الذي يربي كل شيء ويرزق كل مخلوق مصداقا لقوله : ” وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين” ، وقوله أيضا :”وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم” ، و قال أيضا :”ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ، قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون” .

وإذا كان الله تعالى خالق كل شيئ ورازقه ، وربه ومالكه فبحكم الضرورة العقلية والفطرية إنه هو وحده إلهه ومعبوده بالحق فلا معبود غيره لأنه مالك الحياة والموت ، والحساب والجزاء والعقاب ، وصاحب الأمر والملك يوم الحساب كما نص عليه القرآن في أم الكتاب :”مالك يوم الدين” ، ولا ضر ولا نفع إلا به وهو أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد ، ويعلم ما توسوس به نفسه ويعلم ما في قلبه ولا تدركه الأرصار هو يدرك وهو اللطيف الخبير ، وإذا كان الأمر هكذا ، بحيث لا يخفى على أي عقل سليم وذوق ذي حس ووعي ، فبأية حجة ودلالة وبرهان ينصرف ذهن الإنسان إلى عبودية مخلوق كائنا من كان ، علميا أو سلفيا ، بنيا أو ملكا ، وليا أو شيخا ، وإلى مخافة قوة في هذا الكون مخافة الضرر والنفع والرزق والأجل ؟ وفي ضوء هذه الحقائق الثابتة يقف كل مؤمن أمام ربه سبع عشرة مرة ، على الأقل يوميا ، فيقول بلسان طلق دلق ، وبعبارة واضحة جلية : “إياك نعبد وإياك نستعين” ، وبعد هذا التعهد والإعلان الصريح أمام ربه علام الغيوب لن يجوز له أن يناقض ذلك العهد الوثيق الذي ارتبط به بصيغة التأكد والحصر المطلق وأن يتخذ إلها غيره ، وأن يتوجه بدعائه أو رجائه أة خشوعه وخضوعه لمخلوق في هذا الوجود ويتحقق هذا الهدف النهائي المنشود بالنطق باللسان وبالإيمان بالقلب بكل رسوخ وثقة ، وينطق بشعار ذلك الإيمان المطلق “لا إله إلا الله” ، ثم يقول بكل صراحة وجلاء : “وجهت وحهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا مسلما وما أنا من المشركين ، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين” ، وبهذا الإسلام المطلق الخالص بكل فؤاده ولسانه وجوارحه إلى الخالق الواحد الصمد الفرد تتحقق العبودية لله وحده ، وتكون حركاته وسكناته في السر والعلن وفقا لمنهج ذلك الرب المتعال الذي في يده مصيره ومرجعه ” وبيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون” ، وهكذا يتجلى مصداق قول رب العالمية : “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون” ، وقال تعالى أيضا : “وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ، وذلك دين القيمة” (البينة : 5) .

وإنما تتحقق العبودية لله وحده في ضوء القرآن والسنة بأمرين أساسيين ، أولهما : الإخلاص وصدق النية كما هو واضح من الآية المذكورة أي “ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء” ، وقال رسول الأكرم صلى الله عليه وسلم : “إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرء ما نوى” (متفق عليه) ، وقال أيضا :”إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم” (مسلم) .

آثار إخلاص العبودية لله وحده في حياة المسلم ظاهره وباطنه

وحينما يغمر قلب الإنسان بالإيمان المطلق بخالقه ورازقه وربه وإلهه الذي بيده مصيره في الحياة الدنيا وفي الحياة الأخرى ، تطمئن نفسه ويفوح ذهنه وينتعش ضميره ويصفو روحه ويزول الخوف ويطير اليأس وينمحي الحزن والهم والغم من بين يديه ومن خلفه ، ويعلو على وجهه بريق اليقين وبصيص الأمان وروح وريحان في نفسه المطمئنة الراضية المرضية ولا جزع ولا فزع ولا هلع ولا فضول ولا لغو في كلامه وفعاله وخصاله . وهو دائما يراعي أدبه مع الله الباري تعالى ، ويحتفظ بلسان ذاكر وقلب شاكر ، ويقف مع نفسه في كل وقت وقفة حازمة ، ولا يترك عنانها لتتحرك كيفما تشاء لأنه يزكيها ولا تدسيها ، ومن جهة أخرى يكون ذلك الإنسان المؤمن الذي يذكر فضل الله عليه ، ويشكره على نعمائه ، ويقف على أبواب فضله وأبواب رحمته راجيا وضارعا وخاشعا ، ويكون رحيما ورؤوفا بعباد الله جميعا وحافظا وخافضا جناحه لإخوانه ، ويكون مصداقا حيا لأولئك المتقين الذين وعدهم خالق السماوات والأرض بالجنة والنعيم المقيم فقال :”تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين” ، ويكون كذلك عنوانا للأخلاق الفاضلة في جميع مرافق الحياة البشرية ، من الرفق والحلم والصبر والسخاء والجود والتواضع والتوادد والتعاون والتضامن ، والتواصي بالخير والتراحم بين الناس لأن قلبه عامر بالرحمة والرأفة بحكم الإيمان الراسخ من قلبه والداعي إلى التجرد عن الأنانية والتحلي بآداب النفس الزكية التي تخلت وتطهرت في الحياة الدنيوية ، وتدرجت إلى مدارج الرقي الروحي والكمال النفسي ، وتكون سيرته أنموذجا عمليا للسائرين على الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقيين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا .

كيف يتحقق تعمير الكون وفقا لمنهج الله عز وجل

لقد نص الدستور الإلهي على أن تعمير الكون من غايات خلق الإنسان في الأرض إذ قال “هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها ” (هود : 61) قال تعالى عن خلق أبي البشر آدم عليه السلام :”إذ قال ربك للملئكة إني جاعل في الأرض خليفة” (البقرة ) ثم أشار تعالى إلى المسؤولية الملقاة على عواتق أولئك الذين مكنهم الله في الأرض بالإقامة والسلطة والإمكانيات الأخرى : “الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور” (الحج : 41) ، وقد بين هذا الإرشاد الرباني أن المسلم المتمكن في الأرض عليه مسؤوليات متلازمة لإيمانه وتمكنه ، ومطابقة لمكانته ومقامه على وجه الأرض كحامل أمانة ، وتابع رسالة وكفرد من الجماعة ومسؤول عن الدعوة إلى سبيل ربه بمقتضى التزامه بمنهجه عز وجل وتتلخص هذه المسؤولية في أمور أربعة :

أولا : إقامة الصلاة وأن اصطلاح الإقامة يدل على أن يكون أداؤها بطريقة تؤدي إلى تحقيق الهدف المنشود منها كاملا غير منقوص بكونها مظهرا جليا وخفيا لكمال العبودية وأدائها بالجماعة لتكون وسيلة هامة متواصلة لتوثيق وتجديد الأخوة والمساواة بين الناس وللوقوف على أحوالهم وحاجاتهم .

وهكذا أصبحت إقامة الصلوات المكتوبة وغيرها وسيلة كبرى حية لتحقيق إحدى غايات خدمة الخلق وتأدية حقوق العباد واستجابة متطلبات تحقيق خلافة الله في الأرض بمعنى أوسع وأعمق ، وبالتالي تعمير الكون بحيث تصويب نظرته إلى الكائنات التي حوله وتحقيق عبوديته المطلقة لرب العالمين جميعا ، وتذكير الناس جميعا بمواظبتهم على صلواته ، الضرورة القصوى للرجوع إلى خالقهم وإلههم والتمسك بمنهجه وحكمه .

ثانيا : إيتاء الزكاة ، فهذا العمل الجليل يوطد أواصر الألفة ويشد إزار الأمة ويزيل الغمة عنها وينشر الكفاية والكرامة في المجتمع الذي هو جزء لا يتجزأ منه ، وهكذا يسود الوئام ويستقر النظام ويزول الحقد والحسد في الأفراد والجماعات من الأمة ، وقال تعالى : “وما تنفقوا من خير فلأنفسكم وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله وما تنفقوا من خير يوف إليكم وأنتم لا تظلمون” (البقرة : 272) ، وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل :”أي الإسلام خير ؟ قال :”تطعم الطعام ، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف ” (متفق عليه) ، وقال صلى الله عليه وسلم :”ما نقصت صدقة من مال ، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا ، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله عز وجل ” (رواه مسلم) ، وهذه صورة لتعمير الكون والكائنات ، ولأزالة العقبات من سبيل التقدم والازدهار عن طريق الإنفاق من الزكاة والصدقات غيرها ، وإلى هذه العقبة وطرق إزالتها أشار القرآن الكريم :”فلا اقتحم العقبة ، وما أدراك ما العقبة ، فك رقبة ، أو إطعام في يوم ذي مسغبة ، أو يتيما ذا مقربة ، أو مسكينا ذا متربة ” (البلد : 11) .

ثالثا : الأمر بالمعروف فهو يشمل إسداء النصح ونشر المبادئ الصحيحة النافعة بين الناس لكي تكون حياتهم قويمة وقائمة على الفطرة والصراط المستقيم ، وإلى هذا المبدء الإسلامي الأساسي يشير الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم : “الدين النصيحة” ، وبالنصيحة وتبادل الآراء السديدة والأفكار المفيدة بين أفراد المجتمع يتجلى الموقف وينكسر الجمود ويزول الجفاء ويسود الوفاء والوفاق وينظر كل فرد إلى أخيه بعين حسن الظن ، وصدق النية وروح العطف والمودة لأن كلا منهما يعرف أن أخاه لا يغمر له شرا ولا يخفي عنه خيرا والصلاح والإصلاح والنصح شيمته والنصيحة عادته .

رابعا : النهي عن المنكر ، لأن أي شعب ينتشر في أفراده المنكر ، ولا يتقدم أحد لإزالته منه فلا بد من تعدي عداوة إلى الآخرين ، وتنتشر جراثيمه إلى أجساد الشعب بصفة عامة ، ولهذا لقد كان انتشار المنكر في بعض الأمم وعدم قيام نفر منها للنهي عنه ، وساد السكوت عنه بين أولي الألباب منهم : سببا لدمارهم ، ونزول العقاب العام والنقمة التامة على حذافيرها ، وفي مقدمة وسائل تعمير الكون وإصلاح الناس حسب منهج رب العالمين ، النهي عن المنكر والأخذ بيد المفسد ، والنصح للناس عامة لاتباع الخير واجتناب الشر وبهذا القدر من العمل لدعم مصالح الإنسانية ، وأداء المسؤولية بدون استرخاء واستيطان يؤدي الإنسان المؤمن أمانته الملقاة على عاتقه والتي حملها بحكم التكليف العقلي والشرعي ، وأن الإيمان بالقلب ، وإقامة الصلاة بخشوع القلب ، وتجاوب الجوارح وإيتاء الزكاة والصدقات بإخلاص وصدق والتمسك بخلق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أينما يوجد ، إنما هي دعائم بناء عالم إنساني عامر بالسلام والهناء والإخاء وأن هذه هي مهمة كل من مكنه الله في الأرض ، كل دائرة استطاعته ومقدرته وتخصصه وخبرته ، فلا يكلف الله نفسا إلا وسعها ولكن بدون تقاعد وتكاسل وتجاوب مع متطلبات العصر ومستلزمات الزمن والمكان لعملية التعمير والإصلاح حسب منهج الله بينه في كتابه وسنة رسوله .

شروط الاستخلاف في الأرض

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الحكيم :”وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا ، يعبدونني ولا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون، وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون ، لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض ومأواهم النار ولبئس المصير” (النور : 55-57) . وقد بين سبحانه وتعالى في هذه الآيات البينات المحكمات الشروط الأساسية لتمكين أية أمة في أرض الله عز وجل واستخلافها فيها ، علما بأن غاية خلق الإنسان ، كما هو واضح وبين من دستور رب العالمين إنما هي تحقيق العبودية له وحده فتعمير كونه والخلافة في أرضه ، وقد عرفنا من خلال آيات ذلك الدستور ومن إيضاحات رسوله الأمين أن التمكين في الأرض ، واستحقاق الخلافة فيها منوط ومربوط برباط وثيق مع الاعتصام بمنهج خالق الكون ، وقد أوضح ذلك المنهج لعباده في كتابه المنزل على خاتم رسله بلسان عربي مبين .

وأبان وأوضح في الآبات المذكورة أن أية أمة لن تستحق الاستخلاف في الأرض إلا بشرطين أساسيين وهما : الإيمان والعمل الصالح: فالإيمان يتحقق بإخلاص العبودية لله وحده وبدون إشراك أي مخلوق أو قوة في هذا الكون وبالخضوع التام لمنهجه ودستوره وأما العمل الصالح فإنما يتحقق بمعناه الأوسع وبفحواه الأعم أي الصالح في كل شيء ولكل شيء وبكل شيء والصالح دينا ودنيا ، ظاهرا وباطنا ، شخصيا وجماعيا ، عاجلا وآجلا ، وكل حركة من أفراد الأمة الناجحة لا ينبغي أن تكون مصدر فساد وضلال وإضرار فإن أول شرط لتحقيق الاستخلاف في الأرض وتعمير الكون والتعامل مع مخلوقاته طبقا للسنن التي فطر الناس والكائنات كلها عليها ، والتزام طريق الاستقامة كما أشار إليه سبحانه : “إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون” (فصلت : 30) .

ولا نجاة لأمة ولا ريادة لها ولا سيادة ولا سعادة في هذه الحياة وعلى هذه الأرض ، مهما كان انتماؤها الرسمي ، وادعاؤها الوهمي وزعمها العلني ، إلا باتباع النواميس الفطرية التي فطر الله الكون عليها ، وقد أكد رب العباد في كتابه الخالد الذي أنزله نورا وهداية وشفاء للناس كافة :”إن الله لا يغير ما يقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” فلينتبه المسلمون اليوم إلى ما حاق بهم ونزل عليهم من بليات وآفات وفرقة وشتات ، وحروب وكروب ، تجرح قلوب المؤمنين وتجلب سرور المنكرين بالله ودينه ونظامه ، وليعيدوا النظر في منهج حياتهم .