كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يستقبل شهر رمضان

في رحاب رمضان المبارك

كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يستقبل شهر رمضان ؟

الخليج اليوم – قضايا إسلامية الخميس 8-مايو-1986 م

يستعد المسلمون اليوم في كل مكان في العالم للاستقبال سيد الشهور والأيام

هو الموسم الذي بدأت فيه صلة السماء والأرض لتحقيق حياة الهدى والرشاد للبشرية كلها

إنه شهرالمراجعة لآثار الماضي والتدبير في أعمال المستقبل وإعادة النظر في مناهج الحياة ومسالكها

إن هذ الضيف الكريم العظيم يحل هذا العام على أمة الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها ، وتمر هذه الأمة بحافة منعطف خطير في تاريخها المديد حيث يعيش أبناؤها -جماعات وفرادى- وسط صراعات عنيفة وعديدة نتيجة لأحاييل وأساليب أعداء العرب والمسلمين لزعزعة عقيدتهم في نفوسهم ولتشتيت صفوفهم في داخل أوطانهم، ومن أجل ذلك وجب على كل جهة تعتني بشؤون هذه الأمة وبمصالحها وحاضرها ومستقبلها في كل مكان في العالم أن تتخذ هذه الفرصة نقطة انطلاق نحو تدارك أخطاء الماضي والخروج من المأزق الحالي ، والتحول عن طريق الشر إلى الخير ، وهكذا يكون هذا الشهر المبارك فرصة لفتح صندوق التوفير الجديد لجمع أرصدة الخير بجميع أنواعها ، ذخرا في الدنيا والآخرة كما أنه فرصة لمراجعة الحساب الجاري وفيه يفتح الله تعالى أبواب التوبة أماما الإنسان بشكل خاص فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

“إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وأغلقت أبواب النار وصدفت الشياطين ونادى المنادي يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أدبر”

كيفية استقباله عليه الصلاة والسلام لشهر رمضان

إن الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم الذي هو محل القدوة والأسوة ، كان يستقبل شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ، باهتمام بالغ وعناية كاملة وقد ورد في الأحاديث الصحيحة التي رواها كبار أئمة الحديث مثل البيهقي وابن حبان وابن خزيمة وغيرهم ، نموذج لطريقة استقباله صلى الله عليه وسلم لقدوم رمضان المبارك : “قال سلمان الفارسي رضي الله عنه : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخريوم من شعبان ، قال :”يا أيها الناس قد أظلكم شهر جعل الله صيام نهاره فريضة وقيام ليله تطوعا ، من تقرب فيه بخصلة من الخير ، كان كمن أدى فريضة فيما سواه ، ومن أدى فيه فريضة كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه ، وهو شهر الصبر والصبر ثوابه الجنة ، وشهر المواساة وشهر يزاد فيه رزق المؤمن ، من فطر فيه صائما كان مغفرة لذنوبه وعتقا لرقبته من النار ، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجر الصائم بشيئ ، قالوا يا رسول الله ، ليس كلنا يجد ما يفطر الصائم عليه ، فقال صلى الله عليه وسلم :”يعطي الله هذا الثواب من فطر صائما على تمرة ، أو على شربة ماء ، أو مذقة لبن ، وهو شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة ، وآخره عتق من النار ، استكثروا فيه من أربع خصال ، خصلتين ترضون بهما ربكم وخصلتين لاغناء بكم عنهما ، فأما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم فشهادة أن لا إله إلا الله ، وتستغفرونه وأما اللتان لا غناء بكم عنهما فتسألون الله الجنة ، وتعوذون به من النار ، ومن سقى صائما سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ بعدها حتى يدخل الجنة” .

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعد بنفسه لاستقبال هذا الشهر العظيم بفرح وسرور بالغين هو يحث أصحابه على استقباله بكل ما يستحقه من تهيئة النفوس وتصفية القلوب ومن طموحات وآمال ومن تدبير وتشمير .

وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس ، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل ، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة ” (متفق عليه) . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” من صام رمضان إيمنا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه” (متفق عليه) . وهكذا كان الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم يعد نفسه وأصحابه وأمته جميعا في كل زمان ومكان إلى الأبد لاستقبال سيد الشهور ، ولتأكيد معانيه العظيمة وانقضاء فترة التدريب بل يجب أن يكون كل فرد من المسلمين قد تزود منه بطاقات تضمن ديمومة تلك المعاني والدروس المستفادة من أعماق شهر القرآن والنور والفرقان ، مدى بقية الأيام والشهور والسنين من عمره .

من خصائص شهر رمضان

إن من أهم وأعظم خصائص شهر رمضان أن الله سبحانه وتعالى قد اصطفى هذا الشهر بالذات لبدء الاتصال بين السماء والأرض لتستقيم مسبرة الحياة البشرية عن طريق إنزال الدستور الإلهي الخالد العام الشامل ألا وهو القرآن الكريم فأفاض رب العالمين في هذا الدستور على البشر جميعا نور الهدى وفرقان الحق وروح الحياة السرمدية فيقول رب العزة هاديا ومرشداإلى هذه الميزة الكبرى التي يمتاز بها شهر رمضان عن بقية الشهور والأيام :”شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان” (البقرة : 185) .

وبهذا الاصطفاء والاختيار صار رمضان أعظم شهور السنة وأفضلها وأكرمها ، وجدير بأن يسمى : شهر القرآن وشهر الفرقان وشهر الهدى وبالتالي قد اكتسب صفة سيد الشهور والأيام عند الله والملائكة والناس أجمعين .

ولتعميق المعاني التي بها تتحقق صلة السماء بالأرض ولاستمرار مسيرة الحياة المستقيمة بين البشر بدون تيه وضلال وتفرق وشتات ، في نور الهداية الإلهية والتربية الربانية ، اختار الله سبحانه وتعالى هذا الشهر ، من بين شهور العام ليصوم نهاره عباده المؤمنون ويقوموا ليله ويتخذوا هذا الموسم السنوي فرصة للعدوة إلى القرآن درسا وفهما ونشر بين الناس ، ولممارسة منهجه عقيدة وعبادة وسلوكا وقدوة شخصية في شتى مرافق الحياة ، وبالتدريب العملي بالقرآن في شهر القرآن ، يضم استمرار العمل بهذا الدستور والالتزام به ، وهكذا يكون رمضان منعطفا في حياة أمة القرآن فقال تعالى :” شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه” (البقرة : 185) ، وقد ربط القرآن فرضية الصيام بهذا الشهر بالذات بعد أن بين حيثية اختياره إياه دون أخرى بإنزال القرآن فيه هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ، وصار بمثابة تكريم إلهي له وللمؤمنين الذين يتخذون هذا الموسم فرصة للعودة إلى الله وكتابه ولمراجعة الحساب والتقصير في حقهما خلال الأشهر الماضية في هذا العام من حياتهم ، فجاء صيام رمضان شكرا على النعمة الكبرى السماوية التي بها فتحت أبواب الجنة أمام العباد ، واحتفالا بذكرى بدء اتصال السماء بالأرض فما أعظمه من شهر ؟ !

تاريخ الصوم عند الأمم الأخرى

لقد قال سبحانه وتعالى في كتابه المجيد مشيرا إلى تاريخ الصوم عند الأمم وإلى المفهوم العام منه إلى وجه التشبيه بين فرضية الأحكام والعبادات على عباد الله المؤمنين في مختلف الأزمنة والأمكنة :”يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون” (البقرة : 183) ، وتدل هذه الآية الكريمة على أن الصيام الذي كتبه الله تعالى على أمة محمد صلى الله عليه وسلم قد كان مكتوبا على الأمم السابقة لها ، وكانت تلك الأمم تعبد به وتعتبره مكتوبا عليها من عند الله تعالى ، وقد ورد في التوراة والإنجيل ذكر الصيام وكان اليهود والنصارى يصومون في بعض الأيام وما زالوا يتمسكون بهذه العبادة إلى اليوم ، ولكن مفهوم التشبيه هنا في قوله تعالى ” كما كتب” فإنما هو تشبيه الفرضية بالفرضية ولا ينبغي أن يكون هناك تطابق او التشابه في صفاته وأركانه ولا في أوقاته وعدة أيامه .

وأن جملة “كما كتب على الذين من قبلكم” تشمل المؤمنين وغير المؤمنين أيضا لأن الصيام كان معروفا ومعمولا به تعبدا وتنسكا من قدماء المصريين ، ثم انتقل منهم إلى اليونان والرومان ، وما زال الوثنيون والبوذيون وغيرهم من أهل الديانات القديمة يتمسكون بنظام الصيام كجزء هام من عباداتهم الموروثة جيلا بعد جيل ، وهكذا يعتبر الصيام من العبادات القديمة في تاريخ الأمم بصور متنوعة وبمقاصد مختلفة ، ومنها الصيام عن بعض الطعام ، وفي بعض الساعات ، وبغرض الشكر والرياضة والتكفير عن الذنوب وتأديب النفوس ، وبهدف تسكين غضب الآلهة أولا رضائها واستمالتها إلى مساعدتهم عند طوائف من عباد الأوثان والأصنام لأنهم كانوا – وما زالوا – في بعض البلاد عالمنا اليوم ، يعتقدون أن إرضاء الآلهة والتقرب إليها يكون بتعذيب النفس وتقليل حظوظ الجسد من متع الدنيا ، ونرى هذه العادة وهذا الاعتقاد البالي لا يزال قائما في بعض المناطق في مختلف أنحاء العالم حيث انتشر بأيدي أصحاب الديانات الهندوسية والبوذية وأمثالهما ، والذين تأثروا بتعاليم هذه الديانات من المنتمين إلى أهل الكتاب السماوي .

وجاء الإسلام وكان الصيام معروفا عند أهل الكتاب من اليهود والنصارى والصابئة بصورة أو أخرى ، وجاء في الصحيحين أن اليوم العاشر من المحرم أي عاشوراء كان يوما تصومه قريش في الجاهلية وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصومه ، فلما قدم المدينة صامه وأمر الناس بصيامه ، فلما فر رمضان كان يصومه فقال :”فمن شاء صام عاشوراء ومن شاء أفطره ” وجاء في رواية أخرى أنه سأل اليهود عن صيام عاشوراء فقالوا :هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه فصامه موسى شكرا ، فنحن نصومه ، فقال صلى الله عليه وسلم : نحن أحق وأولى بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه ، فتبين من هذا الاستعراض السريع أن الصوم من العبادات القديمة في تاريخ الأديان والأمم ، معم اختلاف المقاصد والأنواع والصفات والأوقات .

من مقاصد الصيام

إن من المعروف عقلا وشرعا في المفهوم الصحيح للإسلام ، أن الأحكام والأوامر الإلهية فيجب على المسلم المؤمن أن يقبلها ويتعبد بها باستسلام مطلق وبانقياد تام ، بدون أي اعتراض أو استبيان لغاياته وأهدافه ومقاصده لأن أي حكم أوامر إذا ثبت صدوره من عند خالقه الذي يعلم السر والعلن ، وهو أقرب إليه من حبل الوريد وللطيف الخير فلا مجال لانتظار قبوله سمعا وطاعة حتى يفهم حكمته أو يدرك مقصده ولكن يجوز له أن يحاول بقدر دائرة استطاعته البشرية لمعرفة بعض المقاصد التي وراء ه الغايات التي تتحقق به في حياته الدنيا وحياته الأخرى ، وهذا القدر من البحث عن مقاصد الشريعة لا تطبيقها والعمل بها فور صدورها من خالقه وخالقها بل لمجرد تقوية إيمانه وطمأنينة قلبه ، ومن دائرة هذه المدود ، ولتحقيق هذه الأهداف ، يجوز للمسلم البحث والتفهم لمقاصد العبادات المفروضة في الإسلام ، وخاصة المقاصد التي أشار إليها القرآت نفسه ، لتثبيت قلوب المؤمنين ولتوطيد أركان الإيمان بفطرية الإسلام وواقعيته ومطابقته لمقتضيات الحياة البشرية .

وأن القرآن الكريم يشير إلى أم المقاصد أو مجملها من فرضية الصيام إذ قال :”لعلكم تتقون” ، ويفهم من منطوق ومنظور هذه الآية أن الصيام قد فرض لتحقيق :التقوى” للصائمين ، وأما الصيام في حقيقته فليس مجرد جوع وعطش وتعب في أوقات النهار ، بل هو تدريب للنفس وصون لها عن جميع نقائصها ، ومدنساتها ، فهو بالتعود على آداب الصيام وأحكامه قد غرس في نفسه ملكة القوة النفسية والبدنية واكتسب مناعة وحصانة ضد الانهيار عند الشدائد وضد العجز أمام تحديات الحياة فتتكامل عنده القوتان المادية والمعنوية ، ولا تنهزم أمام النزوات النفسية والوسواس الشيطانية ، ويملك الطاقة الكافية لمقاومة الشهوات المادية وللمحافظة على الأخلاق النبيلة الفاضلة على الرغم من مغريات الدنيا وزخارفها الخلابة وهكذا يكون بفضل النجاح في معهد التدريب الرمضاني “متقيا” بكل الموبقات والخطايا والأضرار والمخاطر و”تقيا” و”نقيا” بالتمسك بكل الأخلاق الفاضلة من الجود ، والكرم ، والبر ، والصبر ، والتعاطف والتعاون :”وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون” (البقرة : 184) .