تدريب الأغنياء على الإنفاق في الخير وتطهير قلوبهم من الشح والبخل

من دروس رمضان الخالدة

تدريب الأغنياء على الإنفاق في الخير وتطهير قلوبهم من الشح والبخل !

الخليج اليوم – قضايا إسلامية الخميس 12-يونيو-1986

لقد استلهمت موضوع حديثي اليوم في هذه العدد الذي يصدر عقب انقضاء شهر رمضان العظيم المبارك ، من “رحال رمضان” نفسه لأنه كما تحدثنا عنه في إحدى الصفحات الرمضانية من الخليج اليوم ، محطة الشحنات الروحية والطاقات النفسية لرحلة الحياة في مدار السنة كلها ، كما أنه مدرسة تربية وتدريب وتعبئة للمؤمنين المتقين ، لتكون حياتهم على هدى ونور واستقامة وبينة وفرقان في جميع مرافقها ومجالاتها ومراحلها .

وأشرت في “حديثي رمضان” المنشور في عدد الاثنين 12 مايو 1986م ، إلى خبر سار يبعث على الأمل في هذا العصر المادي المليئ “بمد لهمات الأمور ومقاساة الحياة ، ويثلج صدور المخلصين ويقر عيون العاملين في سبيل الخير والبر والإحسان ، ألا وهو أن مؤمنا موسرا من خيرة أصحاب الجاه والمال ، في دولة قطر ، قد قرر تقديم وجبات الإفطار على حسابه طوال شهر رمضان ، لكل العاملين الكادحين تحت خدمته ومؤسساته ، على أن تصل الوجبات إلى مساكنهم جاهزة وذلك عملا منه في مواساة هؤلاء الذين حرمتهم ظروف الحياة من الاشتراك مع أهلهم وعرائلهم في هذه النعمة ، وقد لاحظت بنفسي أن هؤلاء الكادحين ومنهم مسلمون وغير المسلمين ، ينطقون بكلمات الشكر والامتنان ، تجاه هذه المكرمة التي هي إحدى مآثر الروح الرمضانية .

وما أشرت إلى هذا الواقع الملموس إلا توطئة لإلقاء الضوء على درس خالد يلقينا رمضان في هذا المضمار .

تربية رمضان على الجود والكرم

يتضح لنا بكل يسر وسهولة دور في تربية النفوس على الجود والسخاء والكرم والإنفاق في الخير من قدوة إمام المتقين ، وسيرته العاطرة لأنه هو نبراس الحياة للمؤمنين ومن مدرسته يتعلم طلاب النور والعرفان ، ويتخرج دعاء الحق بعد التدريب الكافي ، وروى الإمامان البخاري ومسلم في صحيحهما عن ابن عباس رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس ، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل ، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن ، فلرسول الله صلى عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة ” (متفق عليه) .

ومن تربية رمضان أيضا على الإنفاق في الخير والتوسعة على إطعام الطعام وإكرام الضيوف ما رواه الإمام الترمذي عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :”من فطر صائما كان له مصل أجره غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيء” ، وأن الشكر على النعمة لا يكون باللسان فقط بل يجب العمل على أن يشترك معه فيها إخوانه من حرمتهم الظروف من الاستمتاع بمثلها ، وحينما يفرح الصائم المؤمن بالشبع وتوفر الأطعمة والأشربة على مائدة الإفطار والسحور وكذلك عندما يفرح باجتماع أسرته وأفراد عائلته حول المائدة يتذكر المحتاجين والفقراء والبؤساء الذين لا يجدون ما يطعمون ويشبعون في هذه المناسبة ، وكذلك يتذكر الأيتام والأرامل من الذين لا يجدون من يجتمع حول وتحت حبه وعونه أفراد أسرته .

وهكذا كان رمضان يقوي وشائج العاطفة الإنسانية في نفوس المؤمنين ، وحينما يشعر الصائم المؤمن بمرارة الجوع والحرمان خلال رمضان يشعر بحسرة في صدره ودمعة في عينه تجاه الفقراء والمحتاجين والعاملين الكادحين طوال السنة ليلا ونهارا ، ولا يجدون ما يشبعون ولا يتذوقون تلك الأصنام من المواد الغذائية والفواكه واللحوم التي تدخل بيوت الأثرياء وتفوح منها رائحة الشواء والحساء والقلى ، بينما أولادهم محرومون من كل ما يستمتعون به أطفال الأثرياء على موائد الإفطار الشهية فرحين مستبشرين فصار رمضان موسما لتذكير أولى الخير والثراء وبمعاناة المحرومين وتدريبهم على المواساة والرحمة والإكثار في الإنفاق والإحسان .

مضاعفة نعمة المال

إن نعمة المال من أعظم النعم التي يمنحها الله تعالى لعباده المؤمن إذا اعتنى بها أحسن الاعتناء وتصرف فيها خير التصرف وإلى هذه الحقيقة الناصعة أشار الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم : ” لا حسد إلا في اثنتين : رجل أتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ، ورجل أتاه حكمة فهو يقضي بها ويعلمها: (متفق عليه) وجاء في حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :”ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان ، فيقول أحدهما :اللهم أعط منفقا خلفا ، ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكا تلفا” (متفق عليه) وقال أيضا :”أنفق با بن آدم ينفق عليك” (متفق عليه) .

وأن مغزى هذه الأحاديث الشريفة هو أن الله سبحانه وتعالى قد منح لعباده نعمة المال للنفع العام والإحسان إلى خلق الله عز وجل ولا نعمة أعظم من أن ينعم الله على الإنسان بالمال ويوفقه إلى الإنفاق في وجوه البر والإحسان ويطهر قلبه من الشح والبخل ، وقد تكلف الله تعالى للمنفقين في الخير بمضاعفة أموالهم وتأمينهم من الخوف والحزن فقال تعالى :”من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا يضاعف له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون” (البقرة : 245) . وهكذا وعد الله سبحانه وتعالى بمضاعفة أموال المنفقين في سبيل إعلاء كلمة الله ونشر دينه والجهاد في سبيله ، وبإبعاد المخاوف والأحزان عنهم فمن الذي لا يريد مضاعفة أمواله ؟ وأي إنسان في الكون لا ينشد الأمان من الخوف والقلق والحرمان ؟ فقد ضمن الرب تعالى للمنفقين في سبيل الله وفي مرافق البر والخير كل هذه الميزات بمحض فضله وكرمه على عباده الذين يؤثرون البر والإحسان .

الإنفاق ينمي المال

إن التعبير الإلهي للإنفاق في سبيل الخير بصفة عامة هو “الزكاة” والمشتقات من هذه المادة ، وهي تعني لغة : النماء والزيادة والطهارة ، والتربية وما إلى ذلك من المعاني التي تدل على التنمية والبركة لأن في الإنفاق فوائد جمة تعود على المنفق وعلى ماله وعلى أهله وأولاده ومجتمعه فعلى ماله لأن يحفظه من الآفات ومن الأحقاد وأطماع الحاسدين وينظفه من أدران البخل والشح ، وعلى أهله ومجتمعه لأن الإنفاق ينشر المواساة والمحبة وروح الامتنان والشكر من المستفيدين منه ويكونون عونا له وسندا عند الملمات ، ولهذه المعاني كلها قد جعل الله سبحانه وتعالى من أهم صفات المؤمنين المصلحين ، إذ قال :”قد أفلح المؤمنون الذين في صلاتهم خاشعون ، والذين هم عن اللغو معرضون ، والذين هم للزكاة فاعلون” .

مساوئ البخل

وردت آيات كثيرة وأحاديث عديدة في النهي عن البخل وذم الشح ، ومنها قوله تعالى : “وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى وما يغني عنه ماله إلى تردى” (الليل : 8) ، وقوله أضا :”ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون” (التغابن : 2) ، ومن الأحاديث الواردة في ذم البخل والشح قوله صلى الله عليه وسلم :”واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم ، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم” (رواه مسلم) .

ويأتي في مقابل البخر ، السخاء والصدقة والزكاة وغيرها من أعمال الإيثار والمواساة والعطاء فتكون لها محاسن عديدة عكس ما يكون من مساوئ ضاره للبخل فقال تعالى :”فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى” (الليل : 5) ، وقال كذلك :”وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى ، وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى” (الليل : 17) .

وكفى للبخلاء ولمانعي الزكاة والصدقات وعيد أو نذير قوله تعالى ، بكل ما ينطوي عليه من فداحة وفظاعة من العذاب في الدنيا وفي الآخرة إذ قال :”ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خير لهم بل هو شر لهم سيطوقونه ما بخلوا به يوم القيامة ولله ميراث السماوات والأرض والله بما تعملون خبير” (آل عمران : 180) .

واقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى أن يكون رمضان موسما خاصا لتدريب عباده المتقين على وسائل البر والإحسان والإنفاق وتطهير قلوبهم من أدران الشح والبخل .