لماذا فرض الصيام في شهر رمضان

في رحاب رمضان المبارك

لماذا فرض الصيام في شهر رمضان ؟

الخليج اليوم – قضايا إسلامية السبت 10-مايو-1986 م

لماذا اختار الله سبحانه وتعالى هذا الشهر بالذات ليكون شهر الصيام على أمة الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها من بين شهور السنة ؟ وما هي الحكمة في جعل شهر قمري من فصول السنة شهرا للصيام على مدار السنين ؟ وما هي الآثار المترتبة من الصيام بوجه عام على الإنسان جسميا وعقليا ونفسيا وروحيا واجتماعيا وإنسانيا ؟ وهذه بعض التساؤلات التي تخطر ببال كل إنسان له عناية بهذا الشأن ودراية بفرضية الصيام في رمضان ورغبة في أداء واجبه في هذا الشهر المعظم والقيام بحقه عليه ، بموجب الإيمان والاهتداء بنور الإسلام .

ما أعظمه من شهر ؟

وكفى لشهر رمضان مكانة وعظمة وفضلا أن خالق الكون قد اختار هذا الشهر من بين شهور السنة جميعا أن يكون موسما لبدء الصلة بين السماء والأرض بأن ينزل دستورا خالدا هدى للناس كافة ، وبه تتحقق الحياة السعيدة للبشرية ويسود الأمن والسلام في البر والبحر ويتبدد الظلام ويشع النور في أرجاء الكون وإلى هذه الميزة الكبرى لهذا الشهر العظيم يشير قوله عز وجل :”شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه( البقرة : 185) ، وصار بحق جديرا بأن يسمى : شهر القرآن وشهر الفرقان وشهر الهدى والبينات وأخيرا شهر السماء والأرض إن صح هذا التعبير فما أعظم الشهر الذي اصطفاه الحكيم الخبير لأن يفيض فيه على البشر هدايته ولأن تشرق على الأرض شمس دستوره الخالد ، ولتبديد ظلام الضلال والجاهلية ولتمجيد المعاني الكبيرة الربانية ولتوضيح معالم الحياة الفطرية الصحيحة ولتعليم كافة الثقلين أصول الحياة الإسلامية ومبادئ الحياة المثالية .

شهر إعلان الدستور الإلهي

وما دام رمضان هو الموسم الذي اختاره خالق السماوات والأرض لإنزال القرآن الكريم دستورا خالدا فلا بد من الاستمرار على صلة الناس به حتى لا يضلوا عن طريق ذلك الدستور ومبادئه وبنوده وتعاليمه ولئلا يبتعدوا عن معالمه ودلالاته بطول الزمان وتبدل الأحوال وتجدد الحالات والنزعات وإنما يتحقق ذلك الاستمرار بالاحتفال بذكرى تلك المناسبة الخالدة التي نال فيها الإنسان نعمة الله الكبرى وهدايته العظمى ففرض على عباده المؤمنين أن يصوموا في هذا الشهر وأن يعمروه بالتمسك بجميع معالم الحياة الإسلامية وقيم الدين الإسلامي وأن يتدربوا على تأصيل المعاني الكبيرة التي يحملها شهر القرآن من القرآن وتأكيدها وتعميقها وتربية النفس عليها لأن طول الفترة وطغيان المادة وسيطرة الحياة الدنيوية ربما يؤثر في ضمان استمرارية إيجابيات ذلك الدستور فيأتي الاحتفال بهذا الشهر مع هذه المعاني كلها يعني تجديدها وتعميقها وتنميتها في النفوس لكي تصبح منهجا واضحا أمام الأعين ويصطبغ به سلوك الإنسان المسلم .

وهكذا يعتبر الصيام في شهر رمضان كل عام شكرا لله الذي تفضل على عباده فمنحهم فيه هدايته القيمة التي لا تساويها هدية في الوجود بفضل هذه المنحة ينال سعادتي الدارين فما الصيام فيه إلا فريضة الشكر عليها منا هو واضح من ربط فريضته بنزول الهدية السماوية إذ قال المنعم الكريم :”فمن شهد منكم الشهر فليصمه” ، ولا يعتبر التدريب على دلالات القرآن والتذكيرر الجمة شهرا في كل عام مجرد تكرار وإعادة ولكنه مراجعة لحساب الماضي وفرصة لتفادي التقصير الذي في حق ذلك الدستور في مدار السنة كما أنه فرصة لإعادة النظر في موقعه الذي هو فيه خلال هذا الشهر بالمقارنة إلى الشهور الماضية .

وبفضل التدريب الروحي والعقلي والبدني طوال هذا الشهر من الصيام ، والقيام ، والجود ، و السخاء ، والبر ، والإحسان ، والذكر ، وقراءة القرآن يتربى الصئم في مدرسة القرآن ويخرج إلى منعطف بقية حياته موطدا نفسه على الاستمرار في الخير والالتزام به في جميع حركاته وسكناته .

حكمة اختيار الشهر القمري

علمنا من بيان حكمة مشروعية الصيام في شهر رمضان أنه شهر التدريب على المعاني القرآنية ومعالم الحياة الإسلامية في كل عام ، لئلا تغيب عن حياة البشرية في رحلتها الطويلة وأحوالها المتجددة المعاني الكبيرة الجليلة التي حملها القرآن الكريم إلى البشر فكان من مقتضيات الطبيعة ومتطلبات غايتها المنشودة أن يتعود الإنسان على دروس الصيام في مختلف فصول السنة جوا وطقسا وطبيعة ومواعيد ومواقيت فأما الشهر القمري فهو الذي تتغير أحواله وأجواؤه وظروفه عاما بعد عام فيما أن رمضان لا يقع في فصل واحد من فصول السنة ولكنه يختلف فيها جميعا على مدار السنين يتعود الإنسان على القيام بأداء الصيام كل عام من حياته في مختلف فصول السنة صيفا وشتاء ربيعا وخريفا ويصبح قادرا على مواجهة آثار الصيام من الجوع والعطش ومكافحة شهوات النفس وقيام الليل وقراءة القرآن وسائر العبادات القولية والفعلية ، في أي طقس أو جو من الحر والبرد وكذلك تكون مواعيد الإفطار والإمساك ومقادير ساعات الصيام تختلف باختلاف الفصول من طول النهار وقصره ، فتقوى نفسه ويصلب عوده وتشتد عزيمته أكثر فأكثر من كون الصيام في فصل واحد من كل عام وعلى وتيرة واحدة من النظام .

آثار الصيام العديدة العظيمة

أما الآثار التي يتركها الصيام الصحيح الكامل ، في حياة الصائم صحيا وجسميا وعقليا وروحيا وخلقيا وسلوكيا وكذلك في حياته الشخصية والاجتماعية فعديدة وكبيرة لا تقدر ولا تحصى ! وقد أوجز الله سبحانه وتعالى فوائد الصيام ومقاصده وغاياته القصوى بإعجاز رباني إذ قال :”يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون” (البقرة : 183) ، فصار فيه جميع أنواع الوقاية والاتقاء والتقوى لأنه ورد ذكر مادة “التقوى” بصيغة العموم ، فتعني : تتقون به كل مضرة ومفسدة ومرض وشقاء ، سواء في الجسم وفي العقل وفي الروح وفي الإنسان كفرد وفي المجتمع الذي يعيش فيه ، وصدق الله الحكيم العليم .

وأما النبي صلى الله عليه وسلم فقد قال عن فوائد الصيام الخاصة والعامة في شتى مرافق الحياة البشرية كلمته الجامعة الرائعة وإن كانت قصيرة في ألفاظها فإنها جامعة في معانيها وعظمة في حكمها ودلالاتها إلا وهي قوله المشهور :”صوموا تصحوا” وهاتان الكلمتان النبويتان الخالدتان تجمعان في دلالاتهما قمة أثر الصيام في حياة الإنسان لأن الصحة التي أفاد هذا الحديث أنها من آثار الصيام هي أولا جاءت بالعموم لكي تشمل شتى أصناف الصحة التي يكمن أن يطلق عليها كلمة “الصحة” لغويا واصطلاحيا ومنها : صحة البدن وصحة النفس وصحة العقل وصحة البال وصحة المجتمع لأن الصحة بصفة عامة من حيث تشمل أنواعها كلها كنز يحرص عليه كل إنسان عاقل فإذا فقد شيئا من هذه النواحي الصحية فهو يفقد في واقع الحياة قيمة الصحة في النواحي الأخرى أو على الأقل لا يستطيع الاستمتاع بها والاستفادة منها ولهذا قد احتاج الإنسان لتكون حياته ذات معنى ومغزى إلى السلامة والعافية والصحة في الجسم والعقل والروح والنفس وفي المجتمع المحيط به .

ومن هذا المفهوم العام يمكن لنا التوفيق أو التقريب إلى أذهاننا الحكمة البالغة الإعجازية الكامنة في قوله تعالى عند بيان حكمة الصيام وغايته :”لعلكم تتقون” وفي قوله صلى الله عليه وسلم :”صوموا تصحوا” .

وقال الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي رضي الله عنه في آثار الصيام هذه الكلمات البليغة المفيدة المليئة بالحكمة والعظة :

“الصيام زكاة النفس ورياضة الجسم وداع للبر فهو للإنسان وقاية وللجماعة صيانة ، وفي جوع الجسم صفاء القلب ، وإيقاد القريحة وإنفاذ البصيرة ، لأن الشبع يورث البلادة ويعمي القلب ، ويكثر البخار في الدماغ فيتبلد الذهن ..” .