اعتدال الإسلام

المدينة ربيع الآخر 1404 / 17

المقصود بالاعتدال هو عدم الإفراط والتفريط في أي شيء وإعطاء كل ذي حق حقه ، وحرص الإسلام على المثالية في جميع تصرفات الإنسان وأقواله وأفعاله وأفكاره وميوله ، وإنما تتحقق هذه المثالية باتباع الاعتدال في شؤونه كلها ، وإليه يشير الحديث الشريف “خير الأمور أوسطها” ودل على ذلك قوله تعالى في صفات المؤمنين الصادقين :”والذين إذا أنفقوا لم يسررفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما” (الفرقان : 67) .

وبهذا يحرص الإسلام على إبلاغ الإنسان الكمال المقدور له بتناسق وفي جميع شؤونه ، فلا يقبل على جانب واحد أو عدة جوانب ، ويبلغ فيها المستوى العالي من الكمال ، بينما يهمل الجوانب الأخرى حتى ينزل فيها إلى دون المستوى المطلوب ، فإن مثله مثل من يقوي يديه ويترك سائر أعضائه هزيمة ضعيفة ، ويتحقق هذا الهدف المنشود من الإسلام باتباع المنهاج الذي جاء به رسول الإسلام محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، ولذلك أمرنا الله سبحانه وتعالى بالتآسي به فقال :”لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة” (الأحزاب : 21) ، وعلى هذا الأساس فهم الصحابة الكرام مثالية الإسلام واعتداله فلم تأسرهم عبادة واحدة ولم تقيدهم عادة ، وإنما تقبلوا في جميع العبادات والأحوال وبلغوا فيها المستوى العالي من الكمال ، فلم يحبسوا نفوسهم في مكان ولا على نوع من العبادة ، ولا على نمط معين من الأعمال وإنما باشروا الجميع ، فعند الصلاة كانوا في المسجد يصلون ، وفي حلقات العلم يجلسون معلمين ومتعلمين وعند الجهاد يقاتلون ، وعند الشدائد والمصائب يواسون ويساعدون .

والاعتدال مطلوب حتى في العبادات فلا ينبغي للمسلم أن يرهق نفسه ، أو يؤذي جسده ويدل على ذلك حديث صحيح أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما عن أنس رضي الله عنه قال :”جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألون عن عباداته فلما أخبروا .. قالوا : أين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، قال أحدهم أما أنا فأصلي الليل أبدا ، وقال الآخر ، وأنا أصوم الدهر ولا أفطر ، وقال الآخر وأنا أعتزل النساء ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :”أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ، ولكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني” .

وليش من مناهج الإسلام ووسائله ، تعذيب الجسد وتحميله مالا يطاق لبلوغ الكمال المنشود ، ومن ظن ذلك فهو واهم .. وحرمان الإنسان نفسه من الطيبات والمتع الحلال ليس من مناهج الإسلام في بلوغ الكمال ، وإنما مناهجه في الاعتدال ، والمطلوب لبلوغ الكمال تقوى الله وليس تحريم الطيبات وحرمان الجسد منها فقال تعالى : “يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين” (المائدة : 87) .ثم قال :”كلوا من رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون” (المائدة : 88) .

والحرج في شرع الإسلام مرفوع لأنه يخالف نظرة الإسلام الواقعية والمثالية ، فقال تعالى :”وما جعل عليكم في الدين من حرج” (الحج : 78) ، وقال أيضا :”لا يكلف الله نفسا إلا وسعها” (البقرة : 286) . وبهذا المنهاج أوجد النظام الإسلامي من أتباعه أمة وسطا 0 وهي التي وصفها القرآن الكريم :”كنتم خير أمة أخرجت للناس” (آل عمران : 110) ، قإنم الخروج عن نهج الاعتدال ، والانحياز إلى الإفراط أو التفريط ، يخرجها من دائرة “الوسطية” وبالتالي من دائرة “الخيرية” التي هي من أهم الصفات اللازمة لأمة الإسلام …