المنبع الأول للحضارة الإسلامية هو بيت المسلم

الخليج اليوم – قضايا إسلامية السبت 2-أغسطس-1986 م

يجب أن يكون بيت كل مسلم مكان بركة وخير وهدوء وسكينة وطمأنينة وسعادة كما ينبغي أن يكون مصدر نور وهداية لأفراد الأسرة المنبعثة منه والمترعرعة فيه ، فإذا كان بيت الأسرة الذي يأوي إليه أفرادها اللبنة الأولى لتكوين المجتمع أو الأمة سيكون بالطبع والمنطق المنبع الأول لجذور حضارة ذلك المجتمع وتلك الأمة وإذا كان البيت الأول مركز إشعاع الثقافة والآداب والأخلاق الفاضلة لا بد أن يكون كيان الأسرة التي تترعرع في أركانه وساحاته ، كيانا متأصلا في تلك الخصال النبيلة وبالتالي سيكون الكيان الحضاري للمجتمع الذي يتكون من أمثال هذه الأسر نبيلا وشريفا وكريما ، وقدوة مثالية حسنة في مجالات الحياة الإنسانية كلها . ومن هذا المنطلق المنطقي الفطري قد أعطى النظام الإسلامي القائم على دعائم الهداية الإلهية والإرشادات القرآنية عناية خاصة بشؤون آداب الحياة في البيوت والمنازل والمساكن لوضع حجر أساس الحضارة الإسلامية المتكاملة في ركن البيت لاستكمال بناء بقية أجزائها وأروقتها وشرفاتها من هذه الزاوية المتينة القوية المستقيمة .

حكمة إلهية من بيت الله الحرام

ومن أعظم الحكم الإليهية أن القرآن قد أشار إلى بعض الغايات أو الخصال التي يجب أن تتوفر في كل بيت بنى لمصلحة الإنسان وأسس على أساس من الخير العام لكي تكون تلك الإشارة بإذنه تعالى ، مصدر إيحاء وإيعاز للناس جميعا حسب قدرات أفهامهم وطاقات عقولهم ومدركاتهم فقال : “إن أول بيت وضع لذي ببكة مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا” (آل عمران : 96) . وقد أوضح الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة التي تصف بيت الله الحرام بمكة المكرمة والذي وضعه للناس بمحض فضله وإرادته وحكمته الأزلية ، أن غاية ذلك البيت هي : الانبعاث منه “البركة والهداية” للعالمين والنتيجة الحتمية “الأمن” والطمأنينة والسكينة لمن دخله ومكث فيه واتخذه مثابة ومآبا .

فإذا كان هذا هو هدف أول بيت وضع للناس على وجه الأرض أي تحقيق البركة والهدى والأمن لمن يعمرونه ويقصدونه ويدخلونه ، ينبغي للمسلم المؤمن العاقل أن يستلهم بعض المعاني العميقة الخفية من هذه الإشارة القرآنية ليتخذها نبراسا لحياته الدنيوية ويجب عليه أن يتخذ من بيته الذي يأوي إليه وأسرته مصدرا ومنبعا ومركزا يشع منه بريق الخير كله ونور الهدى وبصيص الأمن والسكون لكل من يقيم فيه ويأتي إليه ويستأنس به بزيارة أو ضيافة ولا ينبغي أن يكون بيته محل لغو ولعب وجهل وفضول ، ولا يتسبب لإحراج وإقلاق وإضرار للآخرين بل يكون محل خير وبركة ومبعث الهدوء والأمان لداخله ومجاوريه وملاصقيه ، ودعنا الآن نستأنس ببعض الإرشادات القرآنية حول ضرورة جعل بيوت المؤمنين مراكز للأشعاع الحضاري الإسلامي المثالي ، آدابا وأخلاقا ، ومنبعا ومظهرا وظاهرا وجوهرا وصورة وسيرة .

بيت المسلم نموذج للأخلاق الفاضلة

لقد وضع القرآن الكريم أهم القواعد الأساسية لجعل بيت المسلم نموذجا للتكوين الحضاري الإسلامي من المهد والمنبع وقد أعطى بيته حرمة لإيعاد لها شيئ وبين آدابا متميزة فريدة في نوعها وشكلها فقد أوجب أولا آدابا وقواعد سلوكية لكل من يسكنه لكي يتبعها في كل لحظة من لحظات الوجود في داخله وكذلك أوجب قواعد وآدابا سلوكية للذين يقربون إليه أو يريدون زيارته أو يبغون دخوله من الخارج ومن الآداب الداخلية مراعاة شعور وحرية كل فرد يسكنه وعدم إحراج أحدا أحد أو عدم تجريح شعور أحد من أحد ، وعدم دخول غرفة أحد من أفراد الأسرة الساكنة في بيت واحد بدون استئذان وسلام واستئناس فلنقرأ في هذا المعنى الإجمالي ، الآيات الآتية : “يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانهم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ، ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم ، وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم” (النور : 59) .

وبعد أن بين نظام المعايشة والمعاملة في داخل البيت بين الأفراد المقيمين فيه من أصحاب أعمال مختلفة وصلاة شتى ، سواء في التنقلات بين الحجرات واللقاءات والمجالسات والمكالمات ، بآيات بينات وبأساليب سهلة وبحجة بالغة فطرية ، بين الآداب الخاريجية للذين يريدون زيارة أهل بيت – مثلا – يقول القرآن : “يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون ، فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعلمون عليم ، ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم والله يعلم ما تبدون وما تكتمون ” (النور : 29) . وتدل كلمة : حتى تستأنسوا وكذلك كلمة : وتسلموا على أهلها ” على أن بيت المسلم محل أنس ومحبة وأمن وسلام ، فلا ينبغي للزائر أن ينقل إليه إلا هذه الصفات وكذلك لا يجب على صاحب البيت أن يأذن للدخول فيه إلا لمن اطمأن إلى سلامة غرض الزائر وعدم تسبب السماح له بالدخول لضياع الوقت أو شيوع اللغو أو فضول الكلام ، لأن بيت المسلم إنما هو مبعث الأخلاق والآداب الفاضلة ومنبع قنوات الحضارة الإنسانية المثالية .