المسلمون اليوم بين فكي المطاردة والمحاصرة

الخليج اليوم – قضايا إسلامية الخميس 11-سبتمبر1986

(دراسة وتحقيق)

مخططات عالمية محكمة لمطاردتهم من حفاظة ماضيهم ، ومحاصرتهم عن حماية حاضرهم وصناعة مستقبلهم !

إذا نظرنا بعين التحقيق والإنصاف ، وبمنظار العقل السليم ، وبمعيار القويم وبمقياس الإدراك والصحيح ، لمجريات الأمور ، وحقائق الأشياء ، وتطورات الأحوال ، ومسيرة الأحداث والوقائع ، في كل قطر عربي وإسلامي بل في كل بقعة بقطنها المسلمون على وجه الأرض ، نرى العجب العجاب ، وأغرب الأخبار التي تحير أفهام العقلاء وتقرع أسماع النبلاء وتشخص أبصار الحكماء وتعجز أقلام الأدباء والبلغاء عن وصفها وتقييم مفاهيمها وتحديد مغاويرها التب تنبثق منها بكل ما تحمله من المفارقة والمتناقضات في موازين الأمم الناهضة والشعوب اليقظة ، وأن القوى المعادية المتربصة لا تدع لهم الفرصة لتتخلص من أوزار التبعية وآثار التخلف ، ولتخرج من مهالك المعارك الجانبية والخرافات المذهبية .

وهكذا نرى أمة الإسلام في كل مكان ، مشغولة بالحروب الداخلية فيما بين فئاتها وجنباتها ، ممزقة بالنظريات والأفكار الهامشية وحائرة في شؤونها وضائعة في متاهاتها ، وقد انقطعت صلات هذه الأمة بتجارب ماضيها المجيد والاعتزاز بمكاسبها التليدة ، وانسحبت من ساحات العمل العصري الجاد لحماية حاضرها مثل الأمم الأخرى العديدة في هذه العالم الزاخر بأمواج التقلبات والتعيرات وتقاعدوا وتكاسلوا عن صناعة مستقبلهم كسائر الشعوب الواعية مرهفة الأحاسيس ومقحمة الأعاصير ومذهلة المفاهيم البشرية بفتوحاتهم الكونية وبطولاتهم العالمية بجد واجتهاد ورصد واستحضار لدروس الماضي ، ونتائج الحاضر وآفاق المستقبل .

الباعث على محاربة المد الإسلامي

ومن مفارقات الأمور ومناقضات العصور وسخرية الزمان ومدلهمات المكان أن نرى أمة الإسلام التي انتشرت في الأرض في فترة زمنية وجيزة في مساحات شاسعة من الكرة الأرضية ، بدعوة عالمية وبرسالة إلهية لهداية البشرية قاطبة ، وقد دخل المسلمون قارة أوروبا في مستهل القرن الهجري الثاني ، وكانت أوروبا حينما حمل العرب المسلمون رسالة الإسلام إليها تغط في سبات التخلف العلمي والفساد الاجتماعي والفوضى ، وكانت ظلمات الخرافات والخزعبلات والعقائد الفاسدة والأساطير والأضاليل المشعوذة تهيمن على العقول الأفهام ، وكان المجتمع الأوروبي منقسما إلى طبقات متصارعة وسادت فيه عادات الرق والعبودية والطبقية والاستبداد والظلم والجور الاجتماعي ، وجدير بالذكر أن إسبانيا كانت من أكثر بلدان أوروبا تخلفا وتناحرا حول الزعامة والسلطة والسيادة فقد فتحها المسلمون ونشروا فيها النظام الإسلامي وجعلوها منارة العلوم والمعارف ، ومحط آمال طلاب النور والعرفان من كل أنحاء تلك البقاع من العالم وصارت الأندلس مشعل الحضارة الإنسانية الصحيحة في أوروبا كلها وأنقذتها من دياجير الجهل والفساد والفوضى التي كانت تسودها منذ عصور بالغة في القدم .

وأن المد الإسلامي الذي انبثق من جزيرة العرب واكتسح القارات الثلاث وأحدث تيارا فكريا جديدا وتقدما حضاريا مجيدا في الأندلس نقلها من حالة التخلف الفكري والجمود العقدي والظلم الاجتماعي والظلم الاجتماعي إلى عالم مليئ بملامح الحضارة الإنسانية الراقية في كثير من مجالات الحياة على حين بقيت سائر البلدان أوروبا على ما كانت عليه من الصراع الديني والاجتماعي والنفوذ الكنسي الخرافي والسطو الاستبدادي لرجال الكنيسة وأصحاب المال والجاه حتى صارت العقول البشرية خاضعة لمهانة الأساطير والمعتقدات الدينية الفاسدة ومارست الكنيسة سلطان عليها بزعم الحق الإلهي لمنح صك الغفران وصك الدخول إلى الجنة ورأت تلك السلطات في المد الإسلامي حرمانا لمآربها الخاصة ومطالبها الذاتية .

وكان النور الذي أرسل أشعته الكاشفة من نبراس الأندلس قد جذب إليه بعض عقلاء أوروبا وشبابها للاغتراف من مناهل العلوم والمعارف التي كانت تنبع من جامعات ومعاهد وجوامع الأندلس في غرناطة وقرطبة وإشبيلية وغيرها من مدن أسبانيا الحالية ، وتدفق طلاب النور والعرفان إلى المراكز العلمية بالأندلس وإلى مجالس علمائها ، وتعلموا اللغة العربية وعرفوا أسرار تقدم المسلمين وخصائص حضارتهم ودرسوا مؤلفاتهم وفهموا اختراعاتهم العلمية .

ولما اتجهت أوروبا نحو الأندلس تتلمذ بعض الأوربين المتنورين بخصائص النظام الإسلامي من حرية العقيدة وانطلاقة الفكر ونصاعة العقل واحترام الإنسان والتمسك بالمثل العليا والقيم النبيلة وكادت تكون الأندلس المسلمة بالنسبة لأوربا كلها المركز الحضاري والمنهل الثقافي ، قد اشتد الخوف الأوروبي من المد الإسلامي والمتأثرين به ، من الطبقة الإقطاعية الحاكمة حفاظا على منزلتها في استغلال الشعوب وامتصاص دمائها ، ومن رجال الكنيسة حفاظا على سلطانها الروحي في استغلال العقائد والأعراف والأساطير الشائعة بين الناس ، فالتحمت مصالح السلطات السياسية والسلطات الدينية في محاربة المد الإسلامي والعمل على غزوة بالمال والسلاح والفكر ، وهكذا تكتلت القوى المضادة للمد الحضاري الإسلامي لإبعاد المسلمين من المنابع الأولى لمناهج عزتهم ونهضتهم وكرامتهم ، وهي المناهج التي خرجت بفضلها من الظلمات إلى النور ، من الجاهلية إلى الحضارة ، ومن الأمية إلى المعرفة ومن الفوضى إلى النظام والسيادة العالمية وكذلك لتشغلهم عن الاستقلال الذاتي والأصالة الحقيقية ولتضليلهم بالمكائد والمخططات الرهيبة من إدراك القوى المضادة الحقيقية والأعداء الحقيقيين حتى أصبحوا في حيرة من أمرهم وفي بلبلة ذهنية عما يحاك ويخطط ضدهم من بين أيديهم ومن خلفهم وهم لا يشعرون .

الخطة الأولى : زعزعة الأصالة

إن التخطيط لمنع المد الإسلامي ومحاربة تياره وفكره قد بدأ منذ مدة طويلة وقد مر عبر رحلة طويلة ، وتركت تلك الرحلة أثرا بعيد المدى في حياة المسلمين في كل مكان وفي كل المجال وأن ذلك التخطيط قد قسمه واضعوه ومدبروه إلى ثلاثة أقسام أو ثلاثة مراحل رهيبة وعميقة ومؤثرة ، وكل منها يهدف الفتك بكيان الأمة الإسلامية وزعزعة أصالتهم الإسلامية وعرقلة قوتها الضاربة وبلبلة ذاتيتها المستقلة فتضيع كرامتها وتضل طريقها وتنهار نهضتها وصحوتها لصناعة مستقبلها فتعيش في ظلال التبعية والمخاوف ، كأنها خشب مسندة .

وأما الخطة الأولى المتربصة بالمسلمين اليوم فهي صرفهم عن المنبع الأول الأصلي لعزتهم وكرامتهم ونهضتهم وتحريفهم عن المنهج الذي تزدادوا منه منذ أول البناء وبدء النهضة ، ولطاقاتهم النفسية وثقتهم الإيمانية وعزائم قلبية وتحقق لهم النصر والفوز وسجل لهم التاريخ الفتح المبين في مجالات الحياة كلها ، من جميع المعارك التي خاضوها ، ألا وهو الإسلام ودستوره القرآن الذي أخرجهم الله به من الظلمات إلى النور ومن الضعف إلى القوة ومن الذلة إلى العزة فأعلن ذلك الهدف المنشود إذ قال :”هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياتهم ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين” (الجمعة) .

ويجب أن نعيد إلى الأذهان عندما نتذكر أهمية التوغل إلى أعماق التاريخ المجيد لأمة الإسلام لحفظ كيان الأمة ولذكر مآثرها في الماضي والاستفادة من دروسه وتحديد الذاتية وتجسيد القيم الأصيلة وللوقوف أمام العواصف العصرية التي تحاول اقتلاع جذورها وتغيير معالمها وإسقاط ماضيها من حساب الحاضر وسحب مجدها من ساحة المستقبل ، أن التشبث بالماضي ، والتغني بمآثرها وأمجادها والتشدق بقيمه وأخلاقه وفضائلها في الكتب والمجلات والتلفاز والإذاعات ، وعلى المنابر والمنصات لا يسمن ولا يغني من جوع ، إذا لم يساعد ذلك الاستذكار والاستبصار على تغيير الواقع الحالي المتردي في الهاوية وصنع المستقبل على ضوء عبر وعظات ودروس الماضي استمدادا من ينابيع ذلك الماضي ، وأما الغياب في الماضي على حساب الحاضر والمستقبل والاكتفاء بالاعتزاز بالتاريخ والافتخار بأمجاد الآباء والأجداد الأبطال والصلحاء ، فيكون معوقا للنهوض والتقدم ومانعا يشل الحركة إلى الأمام ومعطلا لتحقيق النقلة الحضارية في ضوء التطورات العصرية ، ولذلك ينبغي للمسلمين اليوم حينما يهبون لمحاربة خطة مطاردتهم عن الماضي ويحاولون استصحاب روحه والاحتفاظ بأصوله والاغتراف من مناهله ، أن ينتهبوا إلى ضرورة تقديره حتى قدره بدون إفراط وتفريط أي بمعنى عدم الاكتفاء بسرد مآثر الماضي فقط بدون استحضار تجاربه ودروسه لإعادة تشكيل الحاضر وتقويم المستقبل فيجب تأكيد الوجود الحاضر التاريخي مع توطيد الوجود الحاضر وتثبيت دعائم المستقبل فكل جزء من هذا الثالوث جزء لا يتجزأ ! .

الخطة الثانية : المحاصرة عن الانتباه

إن أخطر آفة يمكن أن تصيب أمة أو جماعة أو فرقة في أي زمان أومكان هي تشبيث الأذهان وتفتيت الأفكار وتقطيع أوصال العقول المفكرة ، وذلك إما بأحداث التشويش في صفوف أصحابه أو بنشر البلبلة الفكرية في أوساطهم أو يبث الآراء المختلفة والمذاهب المتعددة بين أفرادها بحيث يتمسك كل مجموعة أو طائفة برأي أو مذهب بعينه ثم يتعصب كل لما يميل إليه بدوافع عنه ويتشبث به فتكون عقول الأمة مبعثرة وطاقاتها الفكرية الذهنية متشبثة حتى يصبح كل فريق مشغول بمذهبه ومدافع عن حزبه سواء أكان المذهب أو الحزب ، دينيا أو اقتصاديا أو سياسيا أو طائفيا ، وأن هذا التخطيط الأخطبوطي هو الذي قد فتك اليوم أمة الإسلام في كل مكان على وجه الأرض في شرقها ومغربها حتى صار المسلمون الذين يوحدهم كتاب واحد ، ونبي واحد ، ومنهج واحد ويتوجهون نحو قبلة واحدة كل يوم عدة مرات يقتتلون ويتقاطعون ويتحاسدون ويتنافرون بأدنى الأسباب ولأتفه الأمور بدون إنصاف وبلا نزاهة في القول والعمل .

ولا يشك من له إلمام بحقائق ألاعيب الاستعمار وأضاليل كثير من زعماء الاستشراق في أن هناك تخطيطا مدروسا ومنظما لنشر الخلافات المذهبية والطائفية في الشؤون الدينية وكذلك في السياسية بين المسلمين في كل بلد ودولة وفي كل مجتمع وشعب ، وهذا هو الذي يمهد الطريق أما أطماع الاستعمار السياسي والاقتصادي والاستشراق الفكري لترك العالم العربي والإسلامي في ضعف وحيرة وتخلف وتبعية ، وقد حذر الإسلام من عوامل الفرقة وظروف التخلف وبواعث الضعف في أمته بنصوص قرآنية عديدة وبأحاديث نبوية كثيرة وبأمثلة من تواريخ الأمم والأقوام ليكون المسلمون دائما على حذر ويقظة وانتباه إلى آثاره الوخيمة وكذلك نبههم إلى مكائد الأعداء لإيجاد الفرقة بينهم ليقضوا على عزة المسلمين وقوتهم وليطفئوا نور الحق والهداية بأفواههم وبأقلامهم وبأموالهم لتحقيق مآربهم ، ومنها قوله تعالى : “إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون” (الحجرات) ، وقوله كذلك :” يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليهم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديكم فكف أيديهم عنكم ، واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون ” (المائدة : 11) ، وقد وصف القرآن الكريم المؤمنين والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ” (التوبة : 71) ، ومن الأحاديث المحذرة من أخطار الفرقة والمنبهة إلى ضرورة التمسك بأواصر الأخوة والوحدة قوله عليه الصلاة والسلام :” مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى” (متفق عليه) . وقال عن صفة كيان المجتمع الإسلامي كما ينبغي أن يكون في مفهوم المنهج الإسلامي : “المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا” (متفق عليه) ، ثم قال بمزيد من البيان النووي الحكيم لتكون أمته على بينه وعلى بصيرة : “من مر في شيء من مساجدنا او أسواقنا ، معه نبل فليمسك ، أو ليقبض على نصالها بكفه أو يصيب أحدا من المسلمين منها بشيء” (متفق عليه) ، فيا أيها المسلمون الذين أعطاهم ربهم عقلا سليما وإدراكا صحيحا اذكروا مفهوم هذا الإرشاد النبوي الكريم ثم انظروا وفكروا مرة تلو أخرى في حالة إخواننا المنتمين إلى هذا الرسول الذي منع أمته من إمساك رمح أو سهم بطريقة ربما يتعرض أحد من المسلمين لأن يصاب به خطأ أو غفلة ، وأما هم فيطعن بعضهم بعضا بسيوف مسلطة وبخناجر مصوبة ويقذف بعضهم بعضا بالصواريخ الفتاكة ويضرب بعضهم بعضا بالدبابات المدبرة ، لأتفه الأسباب ولأبخس المكاسب المادية كأنهم ألد الأعداء في ساحات قتال مرير ، وكأن الرحمة قد نزعت من قلوبهم ، وأين المسلمون اليوم من إرشاد نبيهم الكريم الذي أرسل رحمة للعالمين فقال :”كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه” (رواه مسلم) .

آفة التكفير بين جماعات المسلمين بالتعصب والتمذهب !

لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بجوامع كلمه :”سباب المسلم فسوق وقتاله كفر” (متفق عليه) ، ثم قال محذرا ومنذرا عن مغبة انتشار آفة التكفير بين جماعات المسلمين بسبب التعصب والتمذهب في آخر الزمان فقال :”من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله ، وكفر بما يعبد من دون الله ، حرم ماله ودمه وحسابه على الله تعالى” (رواه مسلم) ، وقال أيضا : “يرمي رجل رجلا بالفسق أو الكفر إلا ارتدت عليه، إن لم يكن صاحبه كذلك” (البخاري) ، ويوصي الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم أمته بكل رأفة ورحمة وشفقة : فقال : لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخوانا ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث” (متفق عليه) ، وقد قال رب العزة في شأن أولئك الذين يصبون الشتائم وكلمات الفسق والفجور والألفاظ الجارحة نحو إخوانهم المخالفين في الرأي أو المذهب الفكري :”والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا” (الأحزاب : 58) .

الخطة الثالثة : تقطيع التعاون بين الدول الإسلامية وتوثيق التعامل مع الدول الاستعمارية

إن الخطة العالمية المرسومة المدروسة لتدعيم أسباب تخلف المسلمين ترسيخ تبعتهم مع الغرب إنما هي تلخص في ثلاث نقاط هامة وخطيرة فهي :

أولا ، تقطيع أسباب التعاون بين الدول الإسلامية في المجالات الاقتصادية والتجارية وحتى في مجال الثقافة والتعليم ، فقد أصبح ذلك الوضع واقعا ملموسا منذ عهد طويل بسبب استمرار النفوذ الاستعماري الغربي في الدول العربية والإسلامية وما نتج عنه من ارتباط مصالح كل دولة من هذه الدول بالدول الغربية من حيث المجموع من ناحية ومن حيث كل دولة بمفردها من ناحية أخرى وهذا موضوع طريل وشائك ولكنه واضح وملموس ، وقد وضع الغرب كل الموارد والطاقات التي يمتلكها المسلمون في أراضيهم ، من الثروات الباطنية والموارد الزراعية وحتى الثروة الحيوانية والطاقة البشرية ، تحت أيديهم وتصرفهم كما وضع العراقيل والعوائق تحول دول وصولها مباشرة إلى أصحابها وتحكمهم في مصيرها .

ومن النتائج الواضحة الملموسة لهذه الخطة الجهنمية ما نراه اليوم من مفارقات سلبية في الحالة الاقتصادية للدول الإسلامية فإن الدول الصناعية الاستعمارية تحصل على منتجات الدول الإسلامية بأرخص الإسعار ، وتصدر تلك لدول الصناعة سلعها المصنوعة بأغلى الإسعار ، ومن ملامح تلك الخطة أيضا ما نراه واضحا وجليا من تباين في الأوضاع والبرامج الاقتصادية في سائر الدول الإسلامية حسب ما تركه وشاءته الدول الاستعمارية وكذلك ارتباط المؤسسات الاقتصادية والمالية والتجارية في مختلف البلاد الإسلامية بالمؤسسات الاقتصادية التابعة للدول الاستعمارية ، ومن هنا نرى اليوم اعتماد الدول الإسلامية على استهلاك السلع المصنوعة في أوروبا وأمريكا وتسيطر تلك السلع على أسواق تلك الدول ، وقد تركت فعلا هذه الظاهرة آثارا نفسية وذهنية مثبطة للهمم ومعوقة للعزائم بين شعوبها كأن مركب النقص قد استولى على قلوبهم وصار ذلك الشعور كابوسا جاثما على صدورهم في الأحلام والمنام ، وهذا التذبذب هو الذي أراد الاستعمار تحقيقه من جراء تلك السياسة الاقتصادية . وقد أدرك هؤلاء المخططون بثاقب فكرهم أن المنهج الإسلامي قد يمنحهم وثبة تعاونية ودفعة تقدمية في هذا المجال وغيره من المجالات الحضارية الإنسانية العامة ، عملا بإرشاد ذلك المنهج القائل :” وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان” فلا شك في ان التعاون الاقتصادي والصناعي والتجاري بين الأقطار الإسلامية سيعود بفوائد جمة على الأمة الإسلامية وهو يؤدي فعلا وسهلا إلى التطبيق العملي لروح التضامن والتعاضد والتآخي بين مختلف فئات وجماعات تلك الأمة فوضعوا العوائق والعراقيل دون الوصول إلى ذلك الهدف المنشود ، وحصل الفصل والفصم بين أقطار المسلمين وقطاعاتهم الاقتصادية وجدير بالذكر أن تباين أنظمة السياسات الاقتصادية سيؤدي حتما إلى تباين وجهات النظر وأحكام الفكر في الاتجاهات الأخرى بين مسلمي تلك الأنظمة المختلفة ، وهكذا استطاعت تلك الخطة ضرب كيان مستقبل المسلمين بمطرقة اقتصادية وهي في العصر الحاضر بمثابة عصب الحياة .

لما هذا التخطيط كله ؟

إذا أدرك الباحث المنصف حقيقة الدين الإسلامي ودوره وأهميته في النقلة الحضارية الشاملة وقوته الذاتية في تغيير النفوس وتكوين الأمة القوية المستوعبة لجميع مقومات الحياة وقدرتها الخارقة على ترك بصمتها الجلية على بقعة تضع فيها أقدامها ويعيش فيها أبناؤها وطاقاتها الإيمانية لتظل صامدة وثابتة أمام العواصف والشدائد بحيث لا تخاف لومة لائم في سبيل الحق والخير ، يفهم جيدا أن الإسلام يختلف عن غيره من الأديان والأنظمة والمناهج التي أتت وحيا من الله سبحانه وتعالى لهداية البشرية أو وضعتها البشرية في مختلف الأزمنة والأمكنة بأيدي حكمائها وفلاسفتها وعلمائها ومفكريها لتنظيم حياة الناس وتوجيههم إلى طريق الحق ولا عادتهم إلى نواميس الطبيعة ، فإنه قد جاء من رب العباد كافة فهو دعوة سماوية عالمية ورسالة هداية للبشرية جمعاء ، وأن معجزته الخالدة من القرآن الكريم فيبقى إلى يوم الدين برهانا ساطعا على عالمية الإسلام وعموميته وشموليته وهذه المعجزة العالمية دليل على أن الإسلام لم يأت للعرب وحدهم بل للبشرية كافة ، ومن هذا المنطق الفطري قد وصل الإسلام إلى آفاق الدنيا ، ودخل أوروبا وترك أثره البالغ في غضون فترة وجيزة من انبثاق فجره على وجه الأرض ، وأن هذه الصفة المميزة للإسلام وقوته الذاتية في الانتشار وترك الآثار ، قد آثار مخاوف أوروبا خاصة وأعداء التوحيد وأصحاب الأهواء والأطماع الدنيوية وذوي المآرب الذاتية والجهات المغرضة كلها غربا وشرقا فتكتلوا وتفكروا وتخططوا لوقف مد هذا الدين وصد تقدمه وكف تياره بكل الوسائل الممكنة بعيدة المدى والقريبة منها .

ومن ناحية أخرى ، قد أدرك أصحاب الغزو الفكري والعسكري ضد المد الإسلامي إلى أوروبا ، أن أي دين أو نظام او مذهب ، منذ الخليقة لم يسجل مثل هذه السرعة في الانتشار وفي فترة زمنية وجيزة في مساحة شاسعة من الكرة الأرضية فصار من الجائز عقلا وفعلا أن يجتاح الإسلام أوروبا كلها وأن مثل ذلك الاجتياح سوف يقضي على المصالح المادية والعرضية لبعض القوى المتصارعة والمتهافتة على المكاسب الذاتية كما أنه يجد من سلطان أصحاب الكنيسة المسيحية الذين ما زالوا يمارسون سلطانهم الروحي فسوف يقضي على الرهبنة والاعراف والمعتقدات الفاسدة وبالتالي سيفقدون زعامتهم الروحية وسلطتهم الدينية لأنه قد أعلن بكل قوة وصراحة : “لا رهبانية في الإسلام” ، وقج نص دستور الإسلام على المساواة الإنسانية التامة بقوله : “إن أكرمكم عند الله أتقاكم” وقوله :”ولا تزر وزر وازرة أخرى” وكذلك قد أكد الأخوة الإيمانية بقوله : “إنما المؤمنون إخوة” .

فلما تأكدوا بأن اكتساح المد الإسلامي قد يقضي على هذه الأوضاع كلها ويحدث نقلة حضارية شاملة ويحقق تغييرا كاملا في طرق الحياة كلها ويغير مجرى التاريخ في كل بقعة تثبت قدمه فيها ، جعلوا المحافظة على تراثهم القديم وتقليدهم البالي ووضعهم الكنسي ، مسألة حياة وموت في شؤونهم كلما فوضع الحكام كل إنكانياتهم في أيدي رجال الدين والفكر منهم كما وضع رجال العلم والدين وفي مقدمتهم الباحثون المعروفون بلقب مهني معروف بالمستشرقين ، كل إمكانياتهم في أيدي الحكام فجاءت المخططات مزدوجة بين الغزو العسكري والغزو الفكري تحت مظلة إمكانيات هائلة ودراسات شاملة بهدف تعطيل كل إمكانيات المسلمين داخل نظاقهم الحالي وخارجه ، وفي منظور الحاضر و منظور المستقبل ، حتى استطاع هذان التوأمان من الغزو الفكري والعسكري لفرض حصار محكم حول المسلمين في العالم ولوضعهم بين فكي المطاردة والمحاصرة فإذا لم تكن القوة الذاتية المعجزة الخالدة لرسالة الإسلام من رب العالمين الذي أنزلها وتكفل بحفظها بنفسه دون سائر العالمين إذ أعلن على الملأ :”إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون” لكان الواقع الإسلامي اليوم غير ما هو اليوم .