مقومات الشخصية العربية الإسلامية لدول منطقة الخليج

الخليج اليوم – قضايا إسلامية الخميس 5-سبتمبر-1985 م

(دراسة وتحقيق)

لا يخفي من له إلمام بالتاريخ الإنساني المعاصر ، وبخريطة العالم السياسية والجغرافية ، وبالوضع الاقتصادي والصناعي والتجاري في عالمنا اليوم ، أن العالم العربي الحاضر ، وخاصة منطقة دول الخليج ، ويحتل مكانة مرموقة في جميع مجالات الحياة البشرية ، ومن الناحية التاريخية فإنه موطن أمم لعبت أكبر دور في التاريخ الإنساني الحضاري والثقافي والديني كمهد الإسلام ومعقله ، ومنذ انبثاق فجر الدعوة المحمدية في الجزيرة العربية قد صارت بمثابة القلب النابض للعالم الإسلامي كله ، بمركزها الروحي وسلطانها الدين واجتماع الحج السنوي الذي هو في الواقع مؤتمر إسلامي عالمي يشترك فيه أبناء الإسلام من كل فج عميق بقلبه وقالبه بحيث لا مثيل له في العالم .

ومن الناحية الاقتصادية والسياسية فإنه يحتضن منابع الثروة والقوة الكبرى من آبار البترول الغزيرة التي هي دم الجسم الصناعي والاقتصادي في العالم اليوم كما أنه موقع جغرافي استراتيجي حساس بين القارات وبين الشرق والغرب ، إلى جانب الأسواق التجارية والأراضي الزراعية والعقول المفكرة والشعوب القوية ذات تاريخ مجيد وحضارات عريقة ، فكل هذا قد جعل العالم العربي محط أنظار الغرب الأوروبي والأمريكي والشرق الروسي ، وملتقي مطامعهم وميدان تنافسهم ، وهذه حقيقة معروفة وواضحة في الخريطة الاستراتيجية العالمية اليوم .

وأما العالم الإسلامي غير العربي فينظر إلى المنطقة العربية ، فضلا عن اعتبارات القوة والثروة والاستراتيجية كأنها القيادة والريادة للنهضة الإسلامية وتقدم المجتمع الإسلامي ، لأنها قد أصبحت بعد البعثة المحمدية طليعة أمة الإسلام ورائدة العلم والحكمة وحاملة لواء دعوة الإسلام إلى شتى بقاع الأرض فحملت الأمة العربية أعباء الدعوة والجهاد بتضحيات وإيثار وإيمان ، وتلك هي الأمة العربية القوية السليمة التي سجلها التاريخ بمداد من نور ومن هنا قيل :”إذا عز العرب عز الإسلام وإذا ذل العرب ذل الإسلام” .

وأن المستعمر الغربي والشرقي الذي يعرف هذه الحقيقة يدرك بدهانة وبثاقب فكره ومكره أن في إضعاف العرب ، إضعاف المسلمين جميعا ، وأن في استعمار بلادهم توطئة لبث نفوذه على العالم الإسلامي الشرق كله .

إن كل فئة من الجماعات البشرية في جميع الأزمنة والأمكنة تتميز بصفات وعادات وشعارات وأنماط من مظاهر الحياة عن مثيلاتها ، وهذه المميزات هي مقوماتها الشخصية وطابعها المميز ، وهي التي تمنع أفرادها من أن يذوبوا في غيرهم عند الاختلاط ، ومن أن تنحل رابطتهم عند التحديات الخارجية وهي التي تساعدهم على استرداد قوتهم ومنعتهم عند الشدائد والمحن .

فما هي العناصر الرئيسية العربية الإسلامية المميزة ؟

والحقيقة التي يجب أن لا تغيب عن البال مطلقا هي أن العقيدة الإسلامية هي أساس كيان العالم العربي وأن سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم هو روحه الذي أبرزه للوجود كوحدة موطدة الأركان ومدعمة الأساس ومتراصة الصفوف ، لأن العرب كانوا قبل ظهور الإسلام وحدات مفككة الأوصال وقبائل مختلفة ومواهب مبعثرة ، وكانوا عرضة لمطامع الدول المستبدة المجاورة .

ومنذ أن هبت عليهم نفحة الإسلام الذي جاء به محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وعلمهم الكتاب والحكمة ، قد أصبح العالم العربي مهد الإسلام وحصن الحضارة الإنسانية القائمة على الإيمان والحق والعدل ، وقد خلق الإسلام من الأمة العربية المتناثرة في القبائل والعادات البالية ، أمة ناهضة بل وقائدة للعالم الإنساني إلى النور والعرفان ، وبهذا الإيمان والقوة المعنوية وروح التضحية انتصر العرب على الدول والحضارات القديمة ذات قوى مادية عديدة مثل حضارة الامبراطورية الفارسية وحضارة الامبراطورية الرومية والحضارة الفرعونية وغيرها .

والعنصرالرئيسي الآخر من مقومات الشخصية العربية هو اللغة العربية الفصحى التي هي وعاء القرآن والعلوم الإسلامية كلها ، وأن اللغة العربية هي من أقدم اللغات وأغناها على الإطلاق ، ولأسرار وحكم يعلمها خالق البشر ، اختار هذه اللغة وعاء لكتابه الخالد كما أشار إليه قوله تعالى :”وإنه لتنزيل رب العالمين ، نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين” .

ومع نزول القرآن في هذه اللغة ارتفع شأنها وأصبحت اللغة السائدة وأصبحت اللغة السائدة في بلاد العرب والمسلمين ، وأن لها فضلا كبيرا على نشر حضارة الفكر العربي والإسلامي وتقدم العلوم والفنون والآداب العربية ، وأن اللغة العربية تربط بين العرب والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها برباط فكري ولفظي ، ولأن القرآن ليس مجرد مبادئ وتعاليم منعزلة عن الظاهر اللفظي وأن إعجاز القرآن منوط باللغة العربية ، وأما الترجمة فتعوزها التي ينوط بها إعجاز القرآن .

وأن هناك خطة خفية لانتزاع حبل اللغة العربية الذي يعتصم به العرب والمسلمون كأهم مصدر للوحدة الفكرية بينهم جميعا أو لانتقاص أهميتها في هذه المرحلة الحرجة التي يمر بها العالم العربي الإسلامي ، فإن الاهتمام باللغة العربية والعمل في سبيل النهوض بها ونشرها والإحساس الدائم بأن النهضة العربية المميزة لا تكتمل دعائمها إلا بنهضة اللغة العربية وعلومها وإثرائها والانتماء إليها بكل فخر واعتزاز .

ومن مقومات الشخصية العربية المميزة أيضا الحياة الجادة الخثنة – إن صح هذا التعبير – والعزوف عن الحياة المصطنعة المترفة ، وبعبارة أخرى الأخذ بجوهر الأشياء وروح الأمور ونبذ المظاهر والقشور ، وبفضل هذه الصفة المميزة التي تمتاز بها الأمة العربية ، قد اختارها الله سبحانه وتعالى لرسالة الإسلام وصحبة الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم والاضطلاع بأعباء الدعوة والجهاد ، لأن هذه الصفة قد خلقت من العرب أمة قوية سليمة لم تبتلعها زخارف الحياة الواهية ولم تضعفها مظاهر الترف واللهو الزائفة ، وأما الأمم الأخرى من الفرس والروم وغيرهم فما كانت تستطيع بحكم حياتها المترفة وانشغالها بشهوات الدنيا وملذاتها واهتمامها بسفاسف الأمور أن تتحمل أعباء الدعوة والجهاد في سبيل الحق والعدل ومهمة خدمة الإنسانية البائسة وإبلاغ الإسلام عبر القارات والبحار بالتضحية والإيثار وبشق الأنفس .

وقد أدرك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بثاقب فكره وبطول تجاربه هذه الحقيقة التي هي سر نجاح العرب في مواجهة تحديات الأمم والامبراطوريات الأخرى القوية المتينة ذات حضارة وشوكة ومنعة ، فكتب إلى بعض ولاته العرب الذين كانوا يتولون مهام تصريف شؤون الحكم في بلاد العجم :”إياكم والتنعم وزي العجم ، وعليكم بالشمس فإنها حمام العرب ، واخشوشنوا واخشوشبوا واخلولقوا” (رواه البغوي ، المراد التزام التخشن في المطعم والملبس ، والصلابة في أمور الحياة مثل الخشب والتبذل في الملابس ومظاهر العيش) .

وهكذا كان قادة الأمة العربية الأوائل يربون حكام الأمة وأفرادها وجماعاتها على حياة البساطة وخشونة العيش وروح الرجولة والجلادة ، والابتعاد عن حياة الترف والدعة والمجون ، وعلى الإيثار والتعاون والتفاني في سبيل خدمة الإنسانية وتوطيد أركان الأخوة والمحبة .

وبفضل هذه المقومات الممثلة في عقيدة التوحيد القويمة واللغة العربية الغنية السليمة والحياة الجادة السوية بعيدة عن مظاهر الترف الزائف والميوعة الناعمة ، خرج العرب في القرن السادس للميلاد ، من حدود جزيرتهم ومن ضيق الحياة فيها ، ومن ضيق التناحر والتحارب القبلي ومن عالم المعتقدات الجاهلية البالية ، إلى عالم من السيادة الروحية والسياسية فأخرجوا الأمم الأخرى من غياهب الظلام إلى النور ومن الجهل إلى العلم ، وأقاموا عالما ناهضا ، على أساس العقيدة الواحدة والمساواة الإنسانية الكاملة والعدالة الشاملة .

وصارت في أيدي العرب قيادة العالم بجدارة واستحقاق مدة طويلة فأحبهم الناس في كل مكان نزلوا فيه واعتبرتهم الأمم المفتوحة منقذيها من الضلال والوثنية والخرافات والظلم والاستبداد ، وكانت لغتهم هي لغة العلم والحضارة كما أنها اللغة الحبيبة لجميع المسلمين ، ونبغ فيها فطاحل العلماء في جميع فروع العلوم والفنون والآداب ، وصارت آدابهم وعاداتهم الاجتماعية في المأكل والمشرب والملبس محل الإعجاب والقدوة في أرجاء العالم الإسلامي كله ، فلا زالت مظاهر هذا الإعجاب متأصلة في عادات الشعوب المسلمة في البلاد الهندية وبلاد الشرق الأقصى والبلاد الأفريقية .

وهذه هي المقومات المميزة التي يجب أن يحرص عليها العالم العربي الإسلامي أشد الحرص ، وأخوف ما يخاف أن يعود كما كان قبل البعثة المحمدية إذا تخلى عن هذه الخصائص التي بها تحول من حال إلى حال ، أو أن يذوب في طوفان التيار الغربي الخادع ، فليس بغريب أن يكون جميع المستعمرين وتلاميذهم يحاولون كل المحاولة لتجريد الأمة العربية من مقومات شخصيتها المميزة وأن معرفة هذه الحقيقة وإدراك كنهها هي الوسيلة الأولى لمقاومة هذه المحاولات المستميتة .