الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة …. لا بالصراخ على المنابر وبافتعال الحماس بالأيدي والحناجر

جريدة الشرق

إن الدعوة إلى سبيل الله قضية عظيمة الأهمية وجليلة الشأن ، ومفروضة على الأمة – جماعات وفرادى ، حسب الاستطاعة التي حددها وبينها القرآن والسنة ، وإنها مهمة الرسل جميعا من لدن آدم عليه السلام إلى خاتم الأنبياء والرسل محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، وهي في مجملها تعني دعوة الناس إلى الإيمان بالله تعالى وإخلاص العبادة له وحدة وتخليصهم من كل أنواع العبوديات وإخراجهم من شتى أصناف الخرافات وتنويرهم بأمور دينهم ودنياهم وهدايتهم إلى الصراط المستقيم المؤدي إلى سعادتي الدارين ، وللقيام بهذه المهمة منهج ألهي لا بشرى ، وسار عليه الدعاة من الأنبياء والرسل ، ومن بعدهم حملها الدعاة من الأمة مستنيرين بنفس المنهج ومتمسكين بوسائل وأساليب وتعاليم الأنبياء والرسل المعصومين فمن اتخذ أو اتبع منهجا آخر فقد انحرف عن سواء السبيل .

المنهج القويم للدعوة إلى سبيل الله

حينما نفكر في موضوع الدعوة إلى الله ، ونحاول الغوص في هذا المجال ، يجب أن نعيد إلى الأذهان أمرين هامين أساسيين أولهما : إدراك أبعاد هذه المهمة والحكمة في أدائها ومدى قدرة الداعي وكفاءته للقيام بها بطريقة صحيحة ومفيدة ، وثانيهما : اليقين التام بأن هذه المهمة مهمة أولي العزم وأصحاب الحزم وأولي النهى من الأنبياء الكرام الذين اصطفاهم رب العباد فليست من السهولة والهيئة بالقدر الذي يتراءى لبعض الناس من العلماء أو أنصاف العلماء أو المتعالمين والمتفيهقين ثم ينبغي لنا الانتباه إلى بعض الحقائق الآتية : وقد أعد الله سبحانه وتعالى أنبياءه ورسله الكرام لتحمل مهمة الدعوة ومسؤولية تبليغ الأمانة ، إعدادا يليق بمكانة دعوتهم وأهميتها ، ولم يكلفهم بتبليغ الدعوة بدون إعداد وتدريب وتنظيم ولم يتركهم يدعون إلى سبيل الله تعالى على حسب أهوائهم أو آرائهم أو ظروفهم بل أعطى كلا منهم منهجا قويما واضحا وقيما فكلهم كانوا يدورون حول ذلك المنهج ويتجهون نحوه للاسترشاد ويسيرون عليه في كل خطواتهم وحركاتهم وعملياتهم في سبيل الدعوة وحذرهم سبحانه وتعالى عن الانحراف أو الابتعاد عن ذلك المنهج مثقال ذرة ففي ذلك الضلال المبين والبلاء العظيم .

وقد صرح القرآن مشيرا إلى المنهج الإلهي المنزل على كل الرسل من عند الله سبحانه وتعالى في سبيل أداء مهمتهم وتبليغ دعوتهم ، وتوصيل رسالتهم فقال تعالى :”لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا” (المائدة : 48) ، وقد جعل الله تعالى القرآن الكريم منهج الدعوة الأساسي والأصيل لخاتم الرسل محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم فقال :”كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به ذكرى للمؤمنين ، اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون” (الأعراف : 2-3) ثم حذر سبحانه وتعالى من الابتعاد عن ذلك المنهج في أي حال من الأحوال لأن الابتعاد عنه والانحراف واتباع منهج آخر ، سوف يؤدي إلى ضلال وخسران وفشل ذريع في هذه المهمة فيقول :”وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله” (الأنعام : 153) ، فقد ثبت من النصوص القرآنية أن القرآن هو الأصلي الأول في المنهج الإلهي لتبليغ الدعوة إلى الناس وأما الأصل الثاني فهو بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه قد بعث بيانا عمليا لما أنزل إليه من كتاب الله كما صرح به القرآن الحكيم :”وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم” (النحل : 44) ، فوجب الالتزام بحدود بيان الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم ويشكل هذا البيان النبوي قولا وعملا وتقريرا ، السنة الصحيحة التي هي الأصل الثاني في المنهج الإلهي لأن بيان الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن صادرا عن رأيه وعن هوى نفسه بل كان أيضا وحيا من الله تعالى بصورة أو أخرى كما أشار إليه رب العالمين :”وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى” (النجم : 3-4) ، ثم أمر عز وجل بالأخذ بالمنهج النبوي كاملا فقال :”وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا” (الحشر : 7) وأن المنهج القويم للدعوة والدعاة في جميع الأزمنة والأمكنة يتكون من هذين الأصلين العظيمين وهما ، القرآن والسنة ، ومن ابتغى وراء ذلك أو غير ذلك فقد ضل وحل في انحراف وتطرف وبلاء مبين .

نماذج من دعوة الأنبياء السابقين

فقد ظل أول أولي العزم نبي الله نوح عليه السلام يدعو قومه حوالي ألف سنة فلما لم يستجيبوا لدعوته أخذهم الله بالطوفان ، ويقول الله عز وجل في شأن نوح عليه السلام بقوله :”ولقد أرسلنا نوحا إلة قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون” (العنكبوت : 14) ، وكذلك أشار القرآن إلى بعض الأنبياء الذين جاءوا بعده ولبثوا في أقوامهم مدة طويلة ولم يستجب لهم إلا قليلا فأخذهم الله أخذا وبيلا فيقول :”وإلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون ، يا قوم لا أسألكم عليه أجرا إن أجري إلا على الذي فطرني أفلا تعقلون” (هود : 51) ، فلم يستجيبوا له وتولوا عنه فأخذهم الله بعذاب شديد ويقول عنه القرآن :”ولما جاء أمرنا نجينا هودا والذين آمنوا معه برحمة منا ونجيناهم من عذاب غليظ” (هود : 58).

وبعد قوم هود أرسل الله نبيه صالحا عليه السلام إلى قوم ثمود فيقول الله عز وجل :”وإلى ثمود أخاهم صالحا ، قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب” (هود : 61) فكذبوه فأخذتهم الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين ، ثم أرسل شعيب عليه السلام إلى “مدين” فيقول القرآن :”وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ، ولا تنقصوا الميكال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط” (هود : 84) ، فقالوا له :”يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول ، وإنا لنراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز” (هود : 91) ، وأخذهم أيضا عذاب من الله العزيز الجبار فيقول رب العزة :”ولما جاء أمرنا نجينا شعيبا والذين معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين ، كأن لم يضنوا فيها إلا بعدا لمدين كما بعدت ثمود” (هود : 95) ثم توالي مجيئ الأنبياء والمرسلين مثل أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام وموسى وعيسى عليهما السلام مبلغين رسالات ربهم إلى الناس وأشار القرآن الكريم إلى تلك الحلقات المتصلة من الرسالات السماوية وعن المنهج الذي كان يتبعها المرسلون في كل حلقة فيقول :”وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون” (الأنعام : 49) .

واختتمت حلقات النبوة واكتمل الدين ببعثة خاتم الرسل محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ونزول الكتاب الإلهي الخالد وقد ضمن خلوده وحفظه وصونه رب العالمين إلى الأبد بقوله :”اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا” (المائدة : 3) ، وقد ضمن حفظه بنفسه فقال :”إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون” ، وقد صرح القرآن عن الرسالة المحمدية :”كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب” (الرعد : 30) ، وأمره بإبلاغ رسالة بكل حزم وعزم ودقة فيقول :”يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته” (المائدة :67) ، ثم قال :”وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون” (الأنبياء : 25) .

وتبين من النصوص القرآنية المحكمة أن سبب إرسال الله عز وجل الرسل إلى الأمم إنما هو دعوة الخلق إلى سبيل الله فقد ظل هؤلاء الرسل يدعون أقوامهم بلا كلل ولا ملل بصبر وعزم على الرغم من حجم الاستجابة لهم أو عدمها أو قليلها وكثيرها فكانت مهمة الأنبياء إبلاغ الدعوة وأداء الأمانة ، وقال تعالى عن مهمة الأنبياء في عملية البلاغ المبين :”قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا إلا بلاغا من الله ورسالاته ، ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا” (الجن : 23) .

المنهج القرآني للدعوة إلى سبيل الله

لقد أوضح رب العالمين لرسوله الكريم المنهج الذي يجب عليه اتباعه في دعوته إلى سبيل ربه ، في مختلف أبعادها وجوانبها ومستوياتها وظروفها ليكون له في مهمته ولأمته جمعاء بعد وفاته إلى يوم الدين ، وينبغي لكل من ينصب نفسه أو ينضم أو يضم إلى سلك الدعاة أن يتدبر هذا المنهج القرآني الذي جعله سبحانه وتعالى منهجا عمليا لرسوله الأكرم إمام الدعاة على الإطلاق ، فيقول القرآن في أول خطاب له للقيام بمهمة الدعوة :”يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ولا تمنن تستكثر ولربك فاصبر” (المدثر : 7) ، وثم قال له :”فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم” (الأحقاف : 35) .

وقد أمره رب العزة باتباع الوسائل التالية في دعوته ، فيقول مخاطبا له :”ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين” (النحل : 125) ، ثم قال :”ادفع بالتي هي أحسن فإذا بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم” (فصلت :34) ، وبعد أن عين القرآن الرسائل الأربع للدعوة ، في الآيتين المذكورتين وهي : الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن والمدافعة بالطريقة التي هي أحسن ، وحذر سبحانه وتعالى من استخدام أي نوع من وسائل الإكراه أو الإجبار أو التهديد في مجال الدعوة إلى سبيل الله بالأوامر الصريحة الحاسمة فيقول رب العزة :”فإنما عليك البلاغ” (الرعد : 40) ثم قال :”وما على الرسول إلا البلاغ المبين” (العنكبوت : 18) وثقول محذرا من الإكراه :”أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين” (يونس : 99) ، ثم يقول في نفس المجال :”فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر” (الغاشية) ، وكذلك يقول :”وإن تولوا فإنما عليك البلاغ” (آل عمران : 20) .

هكذا أعد الله تعالى نبيه الكريم خاتم رسله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم للدعوة إلى سبيله إعدادا يليق بمهنته ومسؤوليته ورسالته “رحمة للعالمين وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا” .

المنهج النبوي للدعوة

وجاءت السنة النبوية مؤكدة موضحة لعدة مبادئ وقواعد للعودة إلى سبيل الله لتكون قدوة وأسوة لأمته الذين هم يتولون هذه المهمة بعده ، شأنهم في ذلك شأن الرسول في مهمة تبليغ رسالة الإسلام إلى الناس ودعوتهم إلى سبيل الله في كل الأزمنة والأمكنة إلى يوم القيامة بموجب قوله تعالى :”ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ” (آل عمران : 104) ، وبنص أمر الرسول عليه الصلاة والسلام في خطبة الوداع : ليبلغ الشاهد منكم الغائب فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى منه” (البخاري) ، ومن هنا وجبت الدعوة إلى الله ووجود طائفة من أمة الإسلام لتقوم بهذه المسئولية ف كل زمان ومكان بمقتضى الوسائل والأساليب التي بينها القرآن والسنة ، وقد عرفنا من البيان السابق أن الأصل الثاني الأساسي لمنهج الدعوة إنما هو السنة النبوية وأيضا يأمر الخالق تعالى :”وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا” (الحشر : 7) ، ومن الشروط اللازمة توافرها في الداعية إلى سبيل الله حسب إرشادات إمام الدعاة والقدوة الأولى في هذا المجال :

1 – الرفق بالمدعوين فيقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم :”يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا” (متفق عليه) ، وقال :”إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه” (مسلم) ، وقال أيضا :”إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق مالا يعطي على ما سواه” (رواه مسلم) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : بال أعرابي في المسجد فقال الناس ليقعوا فيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم دعوه وأريقوا على بوله سجلا من الماء أو ذنوبا من الماء فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين” (البخاري) ، فما أبلغ هذا الأسلوب النبوي الرفيق الرحيم الكريم في قلوب المدعوين من عامة الناس وخاصتهم !! وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم من الخلق الكريم والذوق النبيل والقلب الودود .

2 – التواضع في جميع مراحل الدعوة قولا وفعلا وشكلا ، روى عن أبي رفاعة تميم بن أسيد رضي الله عنه قال :”انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب فقلت يا رسول الله رجل غريب جاء يسأل عن دينه لا يدري ما دينه ؟ فأقبل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك خطبته حتى انتهى إلي ، فأتي بكرسي فقعد عليه ، وجعل يعلمني مما علمه الله ، ثم أتي خطبته ، فأتم آخرها” (رواه مسلم) ، فما أروع وأنفع وأوقع أسلوب أمام الدعاة وسيد المرسلين في تبليغ الدعوة وإرشاد الأمة .