الدروس المستفادة من الحج وعيد الأضحى – 1

الخليج اليوم – قضايا إسلامية الثلاثاء 19-أغسطس-1986 م

لقد تجرب المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها ، خلال الأيام القلائل الأخيرة ، أخلد وأمجد وأوضح مشاهد المساواة الإنسانية ، والعدالة الاجتماعية والأخوة الإيمانية ، حيث تجمع المسلمون من مختلف أقطار الدنيا مع اختلاف أجناسهم وألوانهم ولغاتهم ، فالأغنياء والفقراء والأمراء والعلماء والعامة والأقوياء والضعفاء ، في ثياب موحدة الهيئات والأشكال بل والألوان ، في ساحة “عرفات” بجوار أول بيت وضع للناس على وجه الأرض ، وكان شعارهم جميعا بكلمة واحدة وبلغة واحدة وبصوت واحد : “لبيك اللهم لبيك” فلا وحد كلمتهم وجمع شتاتهم شعار التوحيد ، في القول والعمل والمظهر تحت ظل إرشاد رب العالمين : “واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا . . ”

1 – المساواة الإنسانية

إن مناسك الحج كلها والوقوف بعرفة من أروع مظاهره وصوره وأبهى معانيه وملامحه ، والشعائر التي قام بأدائها الحجاج من كل فج عميق ، قد ذكر العرب والمسلمون في كل مكان بروح الأخوة الموطدة على دعائم المساواة والعدالة والمساندة والمعاونة ، وشجعهم إلى ضرورة التمسك بأواصر الوحدة والألفة وحذرهم من مخاطر الأنانية والمآرب الذاتية والأطماع الشخصية والتكالب على موائد حطام الدنيا الفانية وجمع الثروات والأموال بدون تخطيط ولا تدبير ولا تفكير في وجاهة وسائل الجمع ونظافة المصارف ، وبدون انضباط ولا انتظام في تكديسها وتخزينها وبلا انتباه إلى الدروس الماثلة أمام أعينهم من تواريخ الأمم الماضية والأجيال الخالية والأفراد والجماعات الذين ما أغنت عنهم أموالهم المكدسة ولا المناصب المركزة في أيديهم ، عندما ألمت بهم ملمات الدهر وأردتهم إلى مهالك العصر ونوائب الزمان فانطبق عليهم النظام الإلهي الفطري الذي نبه إليه دستور الإنسانية إذ قال : “والعصر ، إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر” .

وقد أعطى الحج وعيد الأضحى لأمة الإسلام دروسا عملية في تهذيب النفس وكبح جماحها عن الأهواء الطائشة وفي تنقية الروح عن الأنانية المهلكة وحب الذات المضر ، وفي ترويضها على الإيثار والشعور بالمساواة الإنسانية واعتبار حقوق الآخرين مثل حقوق أنفسهم ، وضرورة الدفاع عن الحق والعدل بصرف النظر عن الاعتبارات الذاتية والمصالح الشخصية ، وأن التجمع العظيم بعرفة والشعار الذي رفعه الجميع في هذه المناسبة والعهد الذي قطعوه أمام رب العالمين يذكر المسلمين جميعا بالمبدأ الإلهي والقانون الفطري والواقعي أمام أعين العقلاء في كل زمان ومكان ، ألا وهو : “الناس سواسية كأسنان المشط” فقد صور الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم بأروع تصوير من واقع الحياة فقال : “وكلكم من آدم وآدم من تراب” ! فلماذا التعاظم . والتفاخر؟

2 – التربية الروحية

وقد تجلت في مناسك الحج وفي الاختفال بعيد الأضحى المبارك ظاهرة الروحانية والإخلاص والتقوى والخشوع والخضوع في أبهى وأزكى ملامحها وأشكالها وصورها لأن الجميع كانوا يتوجهون إلى خالقهم ورازقهم وربهم بقلوب خاشعة وبألسنة ضارعة بالأدعية والأذكار والاستغفار ، وكانت الأصوات ترتفع في كل مكان وفي كل حركة تنقل بكلمات واحدة “لبيك اللهم لبيك” وكذلك “الله أكبر” . وكان الحجاج حول الكعبة أثناء الطواف ، وفي عرفة أثناء الوقوف وفي الحجرات أثناء الرمي يلوذون بربهم ، ويقبلون عليه بقلوبهم وأفئدتهم ، بعيدين عن متع الدنيا وعن المطامع المادية . وكانت قلوبهم في هذا الجو المليئ بالأدعية والاستغفار والخشوع تتقوى بروح الإخلاص والتقوى ويزداد إيمانهم وتشتد عزائمهم للتمسك بمبادئ الحق ولباس التقوى ، في بقية العمر من حياتهم الدنيا ، وهكذا كان الحج مدرسة عملية للتدريب الروحي وللتعويد على التقوى والعمل الصالح .

3 – التدريب العملي على الصبر

إن الصبر هو مفتاح النجاح في كل مجالات الحياة البشرية بمقتضى النواميس الفطرية فإن الصبر قسمان : صبر على القيام بالواجبات وصبر على ترك المحرمات وبعبارة عصرية دارجة : الصبر على كسب النافع والصبر على تجنب الضار ، وأن أي نجاح للإنسان في أي مجال من مجالات الحياة يتوقف على هذين النوعين من الصبر معا فإذا كان تاجرا أو صانعا أو زارعا أو معلما أو صحفيا أو غير ذلك فكان من المحتم عليه الجد والاجتهاد والمواظبة والمثابرة على أداء واجباته مع مراعاة شروط النجاح في الدور الذي يقوم به فيصبر على كبح جماح نفسه وطمع هواها في التكاسل ، والتحايل ، والتهرب عن الدقة في مراعاة مواعيد العمل ، وموافاة المسؤوليات الملقاة على عاتقه ، وكذلك عليه أن يصبر على الانضباط والانتظام والانصياع لأوامر الرؤساء وقوانين العمل وما إلى ذلك من الضوابط اللازمة لأداء الواجبات ونجاح المهمات ففي الحج تعويد للمسلمين على احتمال المشقة والصعاب وتدريب لهم على التعايش مع متلقبات الجو ومتغيرات العادة الروتينية سواء في الملبس والمأكل والمسكن والطقس والظروف الاجتماعية وكل هذا وذاك لتعويد المسلم على أن لا يعيش عبدا للروتين بل يجب أن يكون الروتين عبدا مطيعا له ! وأن المطلوب من المسلم أن يكون قادرا على مواجهة الخطوب والمعضلات والصعاب صابرا ومصابرا ولا يجوز له أبدا أن يتخلى عن مبادئه وأهدافه السامية الرفيعة عندما يواجه المشاكل والعقبات بل عليه أن يواجهها بصبر وثبات ، مستنيرا بوعد رب الأرض والسماوات :”إنما يوفي الصابرون أجرهم بغير حساب” وهكذا قد أظل موسم الحج وعيد الأضحى ، في هذا العام على أمة الإسلام وقد ناداهم بلسان الحال إلى الاستفادة من دروسه بفهمه وبصبره ! .