الدروس المستفادة من الحج وعيد الأضحى – 2

الخليج اليوم – قضايا إسلامية الأربعاء 20-أغسطس-1986 م

لقد أشرنا في المقال السابق إلى بعض الدروس العملية النافعة التي أعطاها هذا الموسم التريخي الخالد لأمة الإسلام حيث وفد المسلمون من أنحاء الأرض ، على اختلاف لغاتهم وأوطانهم وألوانهم إلى أول بقعة أشرقت بنور الهداية الإلهية ، ويقع فيها أول بيت وضعه الله للناس على وجه الأرض وشهدت مشاهد وحوادث عظيمة في تاريخ البشرية كلها ، وقد وفد إليها المسلمون لأداء أعظم ركن من أركانه وليشهدوا منافع لهم وليتدبروا قيم هذا الركن ودروسه وليتأملوا في أحوال الأمة الإسلامية في العصر الحاضر وفي التحديات العديدة الخطيرة التي تواجهها في شتى المجالات ، وينبغي أن يتدبر العرب والمسلمون بقلوب واعية ونفوس صاحية في الدروس العملية المحسوسة والملموسة التي قدمها هذا الموقف النبيل والمشهد العظيم وينتبهوا إلى الوضع الحزين الذي تردوا فيه بغفلة منهم عن العواقب الخطيرة وبمكيدة أكيدة من أعدائهم المتربصين .

وألقينا نظرة خاطفة على ثلاثة دروس عملية أولية من الحج ومناسكه وعيد الأضحى المبارك ومنها : المساواة الإنسانية ، والتربية الروحية ، والتدريب على الصبر والمصابرة ومنها أيضا :

4 – تنمية روح النظام في الحياة

إن أنجح الأسباب لتحقيق الإنسان ما يهدف إليه من النمو والرقي والتقدم في أي مجال من مجالات الحياة سواء في الأمور الدنيوية أو الأخروية هو التمسك بالنظام والانتظام والمواظبة في مواعيد الأعمال ومواقيت العبادات ومواصفات وشروط أداء كل عمل بهيئته المخصوصة وبصورته المطلوبة فإن الفوضى وعدم الانتظام في أي منها سوف يؤدي إلى اختلال النظام وزلة الأقدام وابتعاد النتائج عن الطريقة المرجوة بل ربما تكون النتائج عكسية ووبالا على صاحبها ، ومن هنا تعرف خطورة الفوضى في مسالك حياة الإنسان ، ومضرة التسيب والتهرب والتطرف .

وأما الحج فيرى المسلم على روح الانتظام والدقة والانضباط والانقياد لأوامر خالقه وربه ورازقه ، وهؤلاء الملايين من الحجاج يظهرون بمظهر الخضوع والخشوع والزهد ، ويترفعون عن مظهر الترف والبذخ والزينة ، ويلبسون ثياب الإحرام البيضاء الناصعة الموحدة في الأشكال والمقايس إلى حد كبير ، ويتجردون عن مشاغل الدنيا وملذاتها ومتعها ، ويطوفون حول الكعبة مقبلين على ربهم قلبا وقالبا ، ويدعون ويستغفرون في نظام رائع وبموقف خاشع ، ثم ينطلقون انطلاقة واحدة بروح الطاعة والتذلل لله الواحد القهار ، من مكة المكرمة إلى منى يوم الثامن من ذي الحجة فيقيمون هناك إقامة واحدة بحيث ” لا يكترثون بخشونة العيش وقلة المرافق ، ورحمة الناس ، ولا يلتفتون إلى ما كانوا عليه من سعة المعيشة ووفرة وسائلها ، وأن خيامهم وأماكن تنقلاتهم ورحلاتهم وطرق معيشتهم في منطقة منى لعادة أيام ترسخ في قلوبهم روح الانقياد والطاعة وروح العبودية والجندية لرب العالمين ، ثم يتحركون جميعا بتحريكة واحدة وبحركة منتظمة إلى عرفة ضارمين ملبين ومستغفرين ومتجردين عن جميع شواغل الدنيا ولا يلتفتون إلى فوارق الألوان والأجناس واللغات والأوضاع الاجتماعية فإنما هي تربية ربانية وقيادو إلهية سماوية ولا تستطيع أية قوة أرضية أو بشرية تحقيق هذا الانضباط الرائع الخالص وذلك الانتظام الدقيق الطائع المنبعث من أعماق القلوب والنابع من روح الإيمان والتفاني بدون أي مآرب دنيوي أو مطلب شخصي زائل ، فإن التدريب على النظام في شؤون الحياة وتجنب الفوضى المهلكة ، من أهم دروس الحج وأظهر حكمه وفوائده ومنافعه الظاهرة الملموسة .

5 – تجريد المسلم من سفاسف الأمور

إن جلائل الأعمال وعظائم الأمور يجب أن تكون شواغل الرجال وأهداف العظماء ، وأن الاهتمام بسفاسف الأمور والتهافت على صغار الأشياء ليس من غايات كرام الرجال ونبلاء القوم ، وأما التكالب على حطام الدنيا الفانية والتحارب من أجل تحقيق بعض الأهداف الرخيصة في هذه الحياة الدنيئة وتحصيل بعض المكاسب المظهرية من المال أو الجاه أو السلطة على ظهر هذه الحفنة من تراب الأرض قبل أن يوضع تحته ويصبح بطن الأرض مرقده ومثواه بعد أن فارق ظهرها ومثواه فيها خاسرا كل ما عليها ونادما على كل ما ارتكب فيها سخافات وحماقات ! .

وحينما يتجرد المسلمو عن نزعات نفسه الأمارة ويبتعد عن أهوائها وشهواتها ، خاضعا لأوامر ربه وطالبا لمرضاته وكابحا رغبات نفسه في ملذات هذه الحياة القصيرة وراغبا في الفلاح والنجاح في دار الآخرة التي هي “خير وأبقى” ، وعندما تستقر هذه المعاني السامية في قلبه تتهذب نفسه ، وتتنظف روحه ، ويشعر بالعزة والكرامة في العبودية لله رب العالمين وفي الإخلاص في طاعته والتمسك بأوامره واجتناب نواهيه ، وينشد العزة من الله عز وجل ويلتمس الكرامة والثقة والسلامة منه وحده لأن روح التقوى وروح الطاعة وروح الانضباط لرب الكائنات قد رفعه إلى قمة الأخلاق والغايات النبيلة وزكى نفسه من ذلة الطمع والجشع والجاه والمنصب الذي لا يغني عنه شيئا في ميزان العمل الصالح وتخليد ذكراه الشريفة الكريمة النافعة فلا ينبغي للمسلمو أن يغتر ببريق مظاهر الدنيا وإنما هو كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء ، ” وأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض” . ولكم كانت دروس الحج وعيد الأضحى وذكرياته ، عظيمة وكريمة وجليلة للأمة العربية والإسلامية في هذا العصر ؟ .