أضواء على : التاريخ الهندي – 8

صوت الهند – القاهرة ديسمبر 1970 م

العهد البوذي :

تحدثنا في العدد السابق عن “الجينية” التي نشأت في الهند وتطورت في القرن السادس قبل الميلاد ، وفي نفس الفترة من تاريخ الهند التي تلت العصر الفيدي ، نشأت البوذية أيضا .

مولد بوذا :

ولد مؤسس الديانة البوذية أو الفلسفة البوذية – على أصبح تعبير – في منتصف القرن السادس قبل الميلاد ، ولد بوذا في نحو 624 قبل الميلاد ، وكانت وفاته عام 544 قبل الميلاد بعد أن عاش ثمانين كلمة بوذا تعني “العارف” وقد سمى أيضا “سيدهارتها” أي الذي نال أمانيه .

وكان أبوه “سادهودانا” أمير علي قبيلة “سكياس” وكانت تلك القبيلة تنتمي إلى ملوك “كوسالا” في مقاطعة “أورادها” الواقعة بين السلسلة النيبالية المنحدرة من جبال الهيمالايا وبين الجزء المتوسط من شاطئ نهر “رابتي” وتمتاز هذه البقعة بالمناظر الطبيعية الخلابة من الأشجار المثمرة والحقول الخضراء والغابات الكثيفة .

وتوفيت والدته الأميرة “مهامايا” بعد ولادته بأسبوع واحد ثم احتضنته خالته “مهاياباتي” فنشأ جوتم بوذا في بحبوحة من العيش وفي مهد الثراء والنعيم ، وتقول الأساطير الهندية بأنه إذ حان موعد وضع طفلها شعرت “مهامايا” بحنين في قلبها إلى أهل أبيها ورجت الأمير أن يأذن لها بالذهاب إلى موطن أسرتها فلبى زوجها الأمير طلبها وأصدر الأوامر لتعبيد الطرق المؤدية إلى مدينتها وتزيينها بالشجيرات والرايات والأقواس وجلست الأميرة في هودج ذهبي يحمله ألف رجل من رجال البلاط الملكي وكان الموكب يمر وسط الطرق المزدانة بالأشجار الباسقة والخمائل المتمايلة والطيور تغرد على أغصانها ، ولما رأت الأميرة هذا المنظر الجذاب أرادت النزول والتنزه في الخمائل وقربت من إحدى أشجارها واشتاقت إلى أخذ غصن منها فإذا هو يحنو أمامها ويدنو منها فمدت يدها إليه وتناولته وشعرت حين ذاك بالمخاض واستدلوا ستارا حولها فوضعت حملها وهي ممسكة بذلك الغصن وتقدم إليها بعض النساك البراهمة فقالوا حاملين للمولود : أبشري أيتها الأميرة أن طفلك سيكون له شأن عظيم في مستقبل حياته

نشأته :

أما الأمير “سادهودانا” فمنذ أن سمع من كبار البراهمة أنه سيكون لابنه “جوتم” شأن عظيم بدأ يهتم به كثيرا وشيد ثلاثة قصور فخمة واتخذ كل التدابير اللازمة لإبعاده عن آلام الدنيا ومخاوفها ، وعاش بوذا الطفل في تلك القصور في هدوء وطمأنينة ، وذات يوم أراد بوذا أن يتنزه في الحديقة الواسعة الأرجاء في عربة ملكية فاخرة وبينما كان يتجول في الحديقة الفاخرة الفناء رأى شيخا هرما طاعنا في السن وقد وهنت عظامه واشتعل رأسه شيبا وكان يمشي مرتعشا متكئا على عصاه وقال بوذا في نفسه وقلبه ينفطر حزنا وكابة على هذا المنظر المثير :يا للويل المولادة التي تمهد الطريق إلى الشيخوخة الفانية التي تجعل الإنسان في حالة لا تكون له فيها حول ولا قوة فلا خير في نعيم مادي لا يدوم ورخاء مؤقت يزول في طرفة عين .

نقطة تحول في حياته :

وكان هذا الحادث بمثابة نقطة تحول في حياة الأمير ، فعاد من فوره من الحديقة إلى القصر غارقا في التفكير عن حقيقة الدنيا ومكنوناتها ، ولما علم والده نبأ عودته إلى القصر قبل الموعد المعتاد سأل الحاشية عن سبب رجوع الأمير الصغير سريعا فقالوا “أنه رأى في الطريق شيخا هرما وقد تحدب ظهره ووهن عظمه وسقطت أسنانه ، ونخاف أن يكون قد تأثر بهذا المنظر وأصبح زاهدا في الدنيا ، وقال الأمير “لا ينبغي لابني أن يفكر الآن في التزهد عن الدنيا وهو متوفر الحظ العظيم ونعم الحياة كلها ، ثم عين الأمير المرقبين في أنحاء المدينة ليقوموا بإبعاد كل شيء مزعج عن الأمير الصغير ويوفروا له جميع وسائل الراحة والبهجة والسرور .

وبعد فترة من الزمن خرج جوتم مرة أخرى للتنزه فرأى شخصا مصابا بداء عضال وفي منظر يبعث على الحزن والعطف نحوه ، فازداد تفكيره عمقا عن آلام الدنيا وتفاهة العيش فيها وفي مرة ثالثة رأى الأمير رجلا حسنا في مظهره وزاهدا في الدنيا فسأل سائق عربته التي كان يتنزه فيها عن حقيقة أمر ذلك الرجل فأجابه السائق “هذا رجل ورع زاهد في الدنيا” ثم وصف فضائل الزهد والتقوى ، وتمكنت فكرة الزهد في قلبه ولم يعد إلى القصر كالمعتاد بل مضى في سبيله إلى الغابة ونال فيها المعرفة ، وأضافت هذه الأسطورة أيضا : بينما كان جالسا ذات ليلة تحت شجرة في غابة “أوروولا” .

وهي التي تعرف الآن بمنطقة “بوذجايا” الواقعة في شمالي الهند وتسمى هذه الشجرة “شجرة العلم” مستغرقا عن نفسه وعن كل ما حوله وأصبحت روحه تتجرد عن شوائب المادة فانشرح صدره ورأى العالم في تكوناته وتقلباته ومناحيه المختلفة فأدرك مناه وتنورت بصيرته ، ويقول بوذا عن سعادته الروحية التي نالها حين ذاك “تحررت عن شرور الهوى وعن شرور الكون الأرضي وعن شرور الجهل وأدركت الصراط القويم المقدس”.

الفلسفة البوذية :

وجدت الفلسفة البوذية منذ بدايتها أرضا خصبة في أرض الهند وتوطدت أركانها وترعرعت أغصانها وأثمرت ثمارها في عهد الامبراطور العظيم “أشوكا” واستطاع الباحثون أن ينكشفوا مدى انتشار الفلسفة البوذية ونفوذها من الأضواء التي ألقتها المنحوتات الأثرية والتماثيل التاريخية التي يرجع عهدها إلى عصر “أشوكا” وعهد ملوك تشولا في جنوب الهند ، ومن المعلوم أن بوذا لم يضع كتابا خاصا أو دستورا جامعا واضح المعالم يحتوي على تعاليم دعوته ومبادئ فلسفته ولكنه بث فلسفته بطريق الخطب التي ألقاها حينا فآخر بين أتباعه وتلاميذه ، فقام عدد منهم بتأليف كتب تضم القواعد والمبادئ الأخلاقية التي بشر بها بوذا في مواعظه والحكم والكلمات التي قالها في مختلف المناسبات وتجلت منها بوضوح الأهداف المنشودة من هذه الفلسفة ومبادئها الجوهرية ، ووصف “بوذا” مرة في إحدى خطبه طريقته “بطريق سوى” مبنى على البصيرة والتعقل والمعرفة ، ويبعد الإنسان عن الدنيا والقوى البهيمية والملذات ، السخيفة ، وينهى عن إرهاق النفس وإيذائها وتعذيبها وهذه هي الطريقة الوسطى المركبة من ثمانية مبادئ جوهرية أي العقيدة الصحيحة والأهداف النبيلة والكلام الحق والعمل الصالح والوسائل الشرعية للحياة والسعي الحسن والعزيمة الصادقة والفكر الصائب ، وهذه هي المبادئ العليا التي تنير الطريق وتؤدي إلى المعرفة والبصيرة ، وتبعث على الطمأنينة والنجاة الأبدية .

وقد وردت عن بوذا أقوال مأثورة عن معظم العناصر للإنسان وحياته ويقول عن النفس الأمارة أي “مارا” أن النفس لا تنقاد بسهولة لأنها ميالة لمختلف الجهات وطائرة في شتى الآفاق وأما النفس المنقادة فهي التي تجلب الطمأنينة وسلامة الضمير والسعادة لصاحبها ويجب على العاقل أن يراقب أفكاره ويكبح جماح ذهنه وأن يذللَه له وأن أفكارنا مثل سمك أخرج من الماء وألقى على الأرض يرتجف ليتخلص منها وكذلك الفكر الصحيح يجد ويسعى ليتخلص من امرة النفس الأمارة بالسوء إذا كانت الأفكار مركوزة والذهن مستقرة والقلب غير مشغول بأمور دنيئة فلا ينبغي للإنسان أن يخشى من شيء وإن الجسد سريع العطب مثل إناء من الفخار وإن الأفكار متينة مثل القلعة الحصينة ولذا وجب عليه أن يقاوم النفس “مارا” بسلاح المعرفة والتنور ومواقبها بكل دقة وعناية وأن الضرر الذي يلحقه التفكير غير الصائب بصاحبه أدهى وأمر من الذي يبلغه العدو لعدوه والحاسد لمحسوده وإن الإيمان المستقيم والعلم بالشرائع الحقة والقلب والمطمئن لهو السبيل الوحيد إلى المعرفة الكاملة .

وفي معرض الكلام عن الفكر يقول بوذا “أن العقل المتدبر لا تنفذ إليه الشهوات البهيمية وهو مثل الدار ذات السقف المتين الذي لا تجد الأمطار إليها سبيلا ، وأما العقل العاطل فيتسرب إليه الوهن والحزن مثلما ينفذ المطر إلى داخل البيت غير السقف ، والذي طهر نفسه من الآثام ويتمسك بالحق ويستقيم في سلوكه له الحق الكامل لارتداء الرداء الأصفر (الذي يدل على الورع والتقى والتنسك) وأما الشخص الذي يرى الباطل حقا والحق باطلا لن يفوز بإدراك الحقيقة أبدا ، ويجر أذياله وراء الأهواء الباطلة حتى يأتيه حق اليقين ولسنا إلا صنائع أفكارنا ونسيج أخيلتنا وقلوبنا ينابيع سعادتنا ورفاهيتنا وإن الذي يسعى ويعمل بنية حسنة ينال السعادة الأبدية مثل ما يتبع الظل صاحبه في جميع الأحوال ، وأن الحب يقضي على العداء والبغضاء ، وأما العداء والبغضاء فلا يجلبان إلا العداء والبغضاء .

وأما الذي يعمل ويسعى بنية سيد فينال الألم وإذا عرف شخص حقيقة الحياة في هذا العالم ويعتقد بأن مصيره إلى نهاية محتومة فلا يحرأ على التكالب والتشاجر والتقاتل ، وإن الذي ينشد ملذات الدنيا ومتعها فقط لضعيف لا يكون له سند قوي من الأخلاق الفاضلة وتقتلع نفسه من مستقرها كما تقتلع الشجرة الواهنة بالعاصفة من أصولها ، والذي يعيش قابضا على زمام جماحه ومقتصدا في مطعمه ومشربه وصادقا في أعماله وأقواله فنفسه مستقرة لا تتزحزح عن سبيلها وتكون متوطدة في مكانها مثل الجبل الشامخ…