أضواء على : التاريخ الهندي – 7

صوت الهند – القاهرة ديسمبر 1970 م

العهد الجيني :

الجينية : هي إحدى الديانات الهندية التي قامت على الزهد والتقشف والتشدد في العيش والبعد عن ملذات الدنيا وعمادها الرياضيات المتبعة والمراقبة الذهنية الشاقة ، أسس بنيانها في القرن التاسع قبل الميلاد ، والحكيم الهندي الشهير (بارشونات) المولود في مدينة (بنارس) بالهند ، ويقول المؤرخ الكبير اليعقوبي في معرض الكلام عن الجينية : أن بارشونات هو المصدر الذي ينتهي إليه الآن سلسلة رجال هذه الطريقة ، ووضع أربعة أصول رئيسية لفلسفته وهي عدم العنف ، والصدق في القول والعمل ، وعدم السرقة والبعد في الدنيا عن جميع أنواع المتع والملذات ، وقسم أيضا النظام الجيني إلى قسمين : نظام الخاصة ، ونظام العامة .

ويراد بالأول الرهبنة التامة والتبتل الكلي والانغماس في الرياضة الشاقة والمراقبة النفسية ، وهو النظام المختص بالرهبان والكهنة ، ويراد بالثاني مساعدة الرهبان في جهودهم بالأموال وغيرها واتباع أوامرهم والإيمان بدعوتهم ، والتمسك بمبدأ عدم العنف ، وساعد هذه التقسيم على انتشار الجينية في العامة والخاصة بطريقة ملحوظة .

ودامت هذه الفلسفة على هذه الحال بدون توسع في بيانها وشرح في تفاصيلها إلى زمن ظهور المبشر الجيني المشهور (مهاويرا) في القرن السادس قبل الميلاد ، فرفع شأنها ووسع نطاقها وترك أثرها في الفكر الشرقي عامة والهندي خاصة ، وأن نظرية عدم العنف التي بمثابة الجوهر الأخاذ في وشاح الفلسفة الهندية ناتجة أن الفلسفة الجينية .

ولخص أصول ومبادئ هذه الفلسفة وأهدافها في الوصايا والخطب والرسائل التي وجهها في مختلف المناسبات أمام أتباعه .

(مهاويرا) هو الرابع عشر من سلسلة دعاة الجينية من عهد مؤسسها الأول (بارشونات) ولد مهاويرا في عام 599 قبل الميلاد في قرية (وايشالي) في ولاية بيهار بالهند .

وكان أبوه من أمراء القرية ، فنشأ في وسط حياة هانئة ، وفي حظير النعيم وكان بيته محط الرهبان والنساك من جميع البقاع ، وجرت العادة أن ينزل عد منهم في بيته يقيمون فيه مددا عديدة ، تحت كنف الإكرام والاحتفاء البالغين .

وهكذا نشأ (مهاويرا) الطفل في بيت له صلة وثيقة بالرهبانية والرهبان وكانوا يتلقون فيه كل أنواع الحفاوة والترحيب ، وكان يعيش منذ الطفولة بعيدا عن الترف ، متزهدا في المذات والمتع التي يرغب فيها أقرانه .

ولما بلغ رشده قرر أن يعيش عيشة الرهبان المتبتلين الأصفياء ولكن لم تكن الظروف تسمح له تماما للاقتداء بهدى هؤلاء الرهبان نظرا لوضع الوالد الأمير والعائلة الكبيرة التي تعودت على الترف والبذخ ورفاهية الحياة منذ أمد بعيد فتزوج وولدت له بنت وعاش كما يعيش أفراد عائلته دون أن يلح باب الزهد والتقشف فلما توفي أبواه وأتته الفرصة لتنفيذ رغبته الملحة واشتدت فيه بواعث الرهبنة والتزهد والورع والبحث عن الحق طلبا للنجاة الأبدية .

وانتقلت امرة القرية والعائلة بعد وفاة الوالدين إلى أخيه الأكبر – وكان مهاويرا وسط إنجال أبيه – وعقب الوالدين طلب (مهاويرا) من أخيه الأكبر أن يصرح له بالانضمام إلى الطريقة الرهبانية فخاف أخوه الأكبر أن يتهمه الناس بأنه أساء معاملة أخيه فضاق بالعيش واختار الرهبنة ، وأشار على مهاويرا أن يؤجل رغبته سنة كاملة من موت أبيهما ، فوافق على ذلك بكل سرور ، حتى إذا بلغ الثلاثين من عمره ، وانتهى الأجل عقد احتفال عام اشترك فيه أفراد العائلة وأهالي القرية وكان الاحتفال تحت الشجرة المشهورة باسم (شجرة أشوكا) .

وأعلن (مهاويرا) رسميا رغبته على الملا وتنازل عن كل ما يملكه من متاع الدنيا ، وخلع ثيابه الفاخرة ونزع حليه وحلق شعره ، وترك الدنيا على أعين الناس ، لئلا يشك أحد في حقيقة الأمر وصدق الخبر .

وفي أول الأمر صام مهاويرا يومين كاملين ثم بدأ يجوب البلاد حافيا وفي زي الرهبان والنساك ، فأمضى اثني عشرة سنة كاملة في السفر والتجوال متأملا في نفسه ، ومفكرا في أمره ومستغرقا في معرفة الحقيقة ونيل العرفان وكان حذرا في أقواله وأعماله ، بل في جميع حركاته وسكناته ليلا ونهارا سرا وجهارا ، ويطهر نفسه بالرياضيات الصعبة والتأملات النفسية العميقة حتى نال العلم الأعلى المعروف بالعلم المحيط – على حد تعبير اتباع الجينية – وبعد سنة من الرياضات والتأملات فاز بدرجة (هادي السبيل) المعروف لديهم باسم (سبر تنكرا) ثم بدأ يدعو الناس إلى الطريق المستقيم بما يلوح له من الدعوات القيمة والإرشادات النبيلة التي تؤدي إلى الفوز والنجاة الأبدية .

وكانت دعوته موجهة أولا وقبل كل شيء إلى أقاربه وأسرته ، فدعا أفراد عائلته وهم أهل السيطرة والبذخ والرفاهية فأجابوه بغير جفاء ، حتى التف حوله آلاف الاتباع الخواص والعوام مهتدين بتبشيره وملبين لدعوته وصار قطبا لدعوة رهبانية خاصة ، واستمرت دعوته الشخصية حتى تجاوز سن الاثنين السبعين من عمره .

وفي عام 537 من قبل الميلاد ، ألقى خطبته الأخيرة الهامة من سلسلة خطبه البالغ عددها خمسا وخمسين خطبة وعقب انتهاء الخطبة الأخيرة التي ألقاها في قرية (بنابوري) التي كانت تدعي قديما باسم (بابا) في مدينة (بانتا) بمقاطعة (بيهار) حان أجله وتوفي بعد أن ترك وراءه تراثا عظيما من الوصايا والموعظة والفلسفة التي تستحق البحث الدقيق لكل من يتطلع إلى الوقوف على حقيقة الأديان القديمة والآراء الفلسفية الهندية الأصيلة – ويدعي الجينيون أن طريقهم هذه هي الطريقة المتوارثة عن الكاملين أمدا بعد أمد وجيلا بعد جيل وما من دورة للكون الا أتى فيها دعاة لهذه الطريقة ، وتنتهي الدورة الحديثة من الكون (بمهاويرا) .

واشتهرت الطريقة باسمه ، فلا تعرف الجينية الآن إلا منسوبة إلى مبشرها الكبير الأخير (مهاويرا) وهو الرابع والعشرون وخاتم سلسلة المبشرين للكون – كما تقول الأساطير الجينية .

(يتبع ..)