وما يغني عنه ماله إذا تردى

(القرآن الكريم)

الخليج اليوم – قضايا إسلامية الأحد 27-يوليو-1986 م

إن القرآن الكريم الذي أنزله خالق البشر والقوى على أشرف رسله إلى كافة الناس ، ليكون نورا وهدى ودستورا فطريا لجميع مرافق الحياة الإنسانية ، إنما هو في الواقع والحقيقة كتاب الله المسطور وأن الكون كتاب الله المنظور ، وبعبارة أدق وأوضح أن القرآن كتاب الله المرقوم والكون كتاب الله المختوم ، بمعنى أن العاقل الواعي لمجريات الطبيعة الكونية يرى التطابق الكامل والتناسق التام بين القوانين القرآنية والقوانين الطبيعية الحقة كما أكد على ذلك الأمر الأكيد قوله عز وجل في كتابه المجيد إذ قال : فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون” (الروم : 30) .

ويتجلى من هذه الآية الكريمة ومن دراسات التعاليم الإسلامية في جميع المجالات من العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق والمداولات الاقتصادية أو العلاقات الإنسانية الاجتماعية والدولية أن النظام الإسلامي والنظام الكوني الفطري منسجمان غاية الانسجام ومتطابقا في كل الشؤون لأن خالقها واحد ومصدرهما واحد وهو رب الكائنات وعلام الغيوب ومصرف الأمور وهو على كل شيئ قدير ، فلا يمكن تصور حصول تناقض أو تغاير بين النواميس الفطرية السليمة والقوانين الطبيعية الأصيلة وبين الآيات القرآنية ومفاهيمها الحقيقية ومقتضياتها اللغوية والشرعية بحكم ووحدة المصدر ووحدة الخالق ووحدة الهداية ووحدة الغاية ، لكل منهما وهو بإيجاز واختصار : هداية الخلق إلى طريق الحق وإلى الصراط المستقيم الموصل إلى جنة النعيم فقال رب العزة والجلال في كتابه المجيد : “والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم” (يونس : 25) .

ما ينطبق على الأفراد ينطبق على المجتمع

إن الأحكام الفطرية التي تنطبق على الأفراد كحكم فردي ينطبق من حيث المجموعة على حكم جماعي ، فلا غرو في ذلك لأن الجماعة أو المجتمع كله والأمة كلها يتكون من الأفراد فالأخلاق والآداب والمعاملات والعادات والتقاليد التي يتحلى بها أفراد مجتمع أو أمة تنعكس آثارها ونتائجها على ساحة الأمة كلها انعكاسا طبيعيا متلاصقا ، وتوصف من حيث مجموعها بمستلزمات الصفات التي يتحلى بها أفراد وفئاتها لأن المنظار الذي تظهر منه صورة الأمة ككل إنما هو نفس المنظار الذي تظهر منه صورة الأفراد الذين تتكون منهم الأمة نفسها ، ومن هذا المنطلق والمنطق السليم نفهم قوله تعالى الذي اتخذه عنوانا لموضوع اليوم وهو : “وما يغني عنه ماله إذا تردى” ، وأن هذه الآية الحكمة المعجزة إنما هي نبراس واقعي يهدي الإنسان إلى حقيقة المال في حياته والغاية المنشودة منه كما ينبغي وكما يتناسب مع حقيقته وطبيعته ، أما حقيقة المال فإنه وسيلة لا غاية وأنه ليس بكيان مستقل يحفظ نفسه بنفسه ويحرس عنه بذاته بل هو محتاج إلى الإنسان الذي يملك ليحرسه ولينميه وليبقيه على قيد البقاء وليس ينبغي لإنسان عاقل أن يفتدي بنفسه لماله الذي جمعه بنفسه وبجهده وعقله ، ثم يصبح خاضعا له ويضع نفسه في موضع الانقياد له بعد أن كان في الحقيقة ، عند الكسب والجمع والاقتناء ، منقادا لإرادته وخاضعا لتصرفه المطلق وإلى هذه النقطة الحساسة أشار الإمام على ابن أبي طالب رضي لله عنه في صدد بيان قيمة العلم عن قيمة المال إذ قال : “العلم خير من المال فالعلم يحرسك وأنت تحرس المال” مع أن كلا منهما من كسب الإنسان وفي مكنته أن يستخدمها كما يشاء وبإرادته الذاتية ، فكما أن المال لا يغني عن الفرد إذ تردى بنفسه لايغني عن شعب أو أمة مهما كانت ثوراتها وصناعاتها وأرصدتها العالمية وعماراتها الضخمة وخاصة إذا تسرب داء الاستغناء وسوس الغرور إلى نفوس أفرادها وجماعاتها كما أشار إليه رب البشر في أول ما نزل من السور : “كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى” (العلق : 2) ، فإن الشعور بالاستغناء سوف يؤدي إلى الطغيان وأن الطغيان هو الطوفان والغليان المؤدي حتما إلى الغرق والانفجار والاندثار ، وإلى هذه النهاية الحتمية المتردية أشار دستور الإنسانية فقال : “ويل لكل همزة لمزة ، الذي جمع مالا وعدده ، يحسب أن ماله أخلده ، كلا لينبذن في الحطمة “(الهمزة : 4) .

المال مع الجهل كعصا الأعمى

حكى عن الفيلسوف الهندي المهاتما غاندي في فلسفته الاقتصادية : “يجب أن يتعلم الإنسان كيف يتصرف في المال قبل أن يتعلم كيف يكسبه ، وأن كسبه سهل ميسور وأن صونه صعب ومسؤولية ” ، ومن هذه الخلفيات الفطرية الواقعية ، يجب على أمة الإسلام اليوم أن لا يعتبر مجرد امتلاك الثروات الضخمة وازدهار الحركة العمرانية المادية وارتفاع العمارات الفخمة واستكثار الأرصده المالية ، إنما هو عنوان النهضة وملامح التقدم ومظاهر القوة ، ولا ينبغي لها أيضا أن تغتر ببعض أبواق الدعاية المدبرة لغرض صرف نظر الأمة عن ضعفها الحقيقي والهائها عن الأخذ بأسباب النقدم الواقعي والقوة الواقعية بكي تبقى بلاد هذه الأمة مرتعا وسوق لمدبري هذه الخطة المحكمة ، وأن فهم تلك الآيات سيؤدي إلى تغيير مجرى حياة أمة الإسلام .