العفو عن السفهاء والاعراض عن الجاهلين من آداب الإسلام

الخليج اليوم – قضايا إسلامية – الأربعاء 23-يوليو-1986 م

لا يخفى على أحد من العقلاء الذين لهم إلمام بمبادئ الأخلاق وآداب السلوك في النظام الإسلامي ، أن القرآن الكريم والسنة النبوية قد وضع منهجا قويا ونظاما سويا لمكارم الأخلاق ومعالي الصفات التي يجب أن يتحلى بها كل مسلم مخلص يتخذ القرآن دستورا لحياته والرسول أسوة في سيرته ، وينبغي لهم اولا أن يعي جيدا آيتين من القرآن وحديثين من السنة المطهرة ليكونوا على بينة ومحجة بيضاء من نظام الأخلاق والسلوك في الإسلام ، وأما الآيتين فالأولى قوله تعالى : “لقج من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين” (آل عمران : 164) ، والثانية قوله عز وجل : “وإنك لعلى خلق عظيم” (ن : 4) . وأما الحديثان فالأول وقوله عليه السلام :”إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق” ، والثاني ما ورد في جواب أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن سؤال عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : “كان خلقه القرآن” .

أهمية العفو عن السفهاء

إن العفو والتسامح عن أقوال وأفعال وحركات السفهاء الذين لا يدركون حقائق الأمور ويميزون بين أوضاع الأشياء ولا تسمح لهم حماقتهم وسفاهاتهم المتوارثة أو التقليدية البالية لتقدير الأشخاص ومستوياتهم ولتقدير موازين المعاملات بين الناس ، إنما هو السبيل الأسلم والحل الأعقل لتحاشي حماقتهم وتفادي النفثات القبيحة التي تنبعث من ألسنتهم القذرة ومن رؤوسهم الدنيئة .

ويجب على العاقل أن يفهم ويدرك جيدا أن حياته الغالية وأوقاته النفسية لن تتسع للرد على حماقات هؤلاء وللوقوف أمام وقاحاتهم وتخرصاتهم النابعة من قلة الذوق ونقص الثقافة وعدم الوعي . وأدهى وأمر من هذا كله أن الوقوف أمام سخافاتهم وحماقاتهم ومحاولة الرد عليها يدفع أولئك السفهاء الأغبياء إلى مزيد التعالي والتمادي في غيهم وسخفهم فلهذه الأسباب كلها ولغيرها من الحكم التي يعلمها رب الفطرة التي فطر الناس عليها ، قد أمر رسوله الكريم الذي بعثه نورا ونبراسا ورحمة للعالمين جميعا : “خذ العفو وامر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ” (الأعراف : 199) ، وأيضا : “فاصفح الصفح الجميل” (الحجر : 85) . ثم قال : “فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين ” (الحجر : 95) ، وقال أيضا بمزيد من البيان والإيضاح : “فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ، فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين” (آل عمران : 159) .

وحينما طبق الرسول الكريم هذه الإرشادات القرآنية في جميع حركاته وسكناته قد أصبح مستحقا لارفع أوسمة الكمال الخلقي والتمام الأدبي والسلوك المثالي وقلده تعالى عليه من السماوات العلى ليكون وساما ربانيا على الملأ إلى أبد الآبدين ، حين قال له : “وإنك لعلى خلق عظيم” .

وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قد سأل جبريل عليه السلام ، حين نزل عليه قوله عز وجل : “خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين” عن معنى تلك الآية فأجابه : إن يأمرك أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك ، وتعفو عمن ظلمك ، وكان الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم سباقا وتواقا إلى تلبية ما يدعو إليه ربه وتطبيق ما يؤديه عليه فقال مرة : “أدبني ربي فأحسن تأديبي” ، وإذا اتخذ أي إنسان عاقل من هذا المنهج القرآني دليلا ومرشدا في سلوكه مع الناس في العلاقات العامة والخاصة ، يتقي به كثيرا من المتاعب والمصائب وأوجاع الدماغ ، ومشاكل الأرق والفكر وشرود الذهن لأن الالتفات إلى أقوال السفهاء وإعطائها وزنا أكثر مما يستحقها قد يورق في الأذهان الأحقاد والأضغان والأثقال النفسية وأحيانا يحدث ذلك رغبة في الأذى والانتقام فحين يفكر الإنسان العاقل في استهزاء السفهاء والحمقى وسفاسفهم البذيئة ينبغي له استعراض سيره أكرم الخلق وما كان عليه من تأديب ربه الثمار التي جنى به والنعمة العظمى التي كسبها بفضل تلك الآداب النبيلة وأخيرا فليتذكر إرشاد رب العالمين : “لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر” .

الأعراض عن الجاهلين من صفات المؤمنين

إن من أهم الصفات التي وصف بها رب العباد عباده المقربين إليه والفائزين برضاه وبجنته الأعراض عن الجاهلين وعدم الخوض معهم في المتاهات والترهات واللغويات إذ قال في سورة الفرقان : “وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا ، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما” (الفرقان : 63) ، ثم يقول الله تعالى محذرا عن الصدور من المؤمنين أقوال وأفعال ومعاملات تدل على الجهالة أو الحماقة أو السفاهة ” إني أعظك أن تكون من الجاهلين” (هود : 46) ، وأن أي إنسان عاقل إذ لم يتخذ من هذا المنهج القرآني الفطري في العلاقات الإنسانية أي الأعراض عن الجاهلين والعفو عن السفهاء والصبر على أذى الحمقى لا يجد سبيلا لراحة البال وسلامة الحال في هذه الدنيا المليئة بالمفلسين أدبا والجاهلين سلوكا .