من عرف نفسه فقد عرف ربه

الخليج اليوم – قضايا إسلامية السبت 23 -أغسطس-1986 م

إذا حاول الإنسان العاقل المتزن عقلا وفكرا ، ان يتلمس واقع وجوده في الكون وحقيقة شعوره عن نفسه يدرك بكل وضوح وجلاء أنه دائما يحث بالنقص والعجز والاحتياج في كل حركاته وسكناته وأقواله وأفعاله إلى قوة دافعة ومعطية له الطاقات اللازمة لكي تخرج ما في مخيلته من المطالب والمقاصد والرغبات إلى واقع ملموس ومحسوس .

وأن هذا الشعور بالاحتياج إلى شيئ أقوى منه وأقدر ، في حياته هو الذي يزغره إلى التفكير في الحقيقة الفطرية بوجوده وكيانه وحياته ومصيره ، وقد يخبو واقع هذا التفكير الأصيل الفطري لدى بعض الناس بسبب العوارض والمشاغل المادية وبإغواء النزوات الشيطانية ، فيكون في حكم فاقد الشعور الواعي والقلب النابض ، وإن كان في الظاهر جنة متحركة على سطح الأرض يشكل الهيكل الإنساني : “كأنهم خشب مستدة” .

وأن الشعور بالاحتياج إلى قوة أكمل وأقوى فهو ما فرط عليه الإنسان ، وجزء من تكوينه حيث لا يمكن انتزاعه منه .

وهذه الغريزة الفطرية هي التي تؤدي الإنسان إلى الإيمان بالخالق المدبر الذي أعطاه خلقه وصورته ودبر أموره وأنار طريقه في حياته كلها ، وإليه يشير قوله تعالى : “فأقم وجهك للدين حنيفا ، فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لايعلمون” .

وأما أصالة الإيمان بالخالق المدبر والانقياد لأوامره والالتجاء إلى عونه وتوفيقه فموجودة في كل إنسان بفطرته ، ولكن الأصالة مهما كانت راسخة وعريقة تخبو أحيانا وراء غمامة عارضة ، من الوهن والغباء أو بشدة الرياح العاتية .

ومع كون الإيمان بالخالق المطلق من فطرة الإنسان السوي ، ومن غرائزه المركونة فيه بأصل الخلقة ، فقد أوجب الخالق سبحانه وتعالى على الإنسان استعمال عقله وفكره لمعرفة قدوة الخالق المدبر وقال : “إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب” .

وقال أيضا : “إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتعريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون” وبالتفكر والتأمل يكون الإيمان عن عقل وبينة .

صفة الكمال وصفة الاحتياج

لما كان الكال المطلق لخالق الكون سبحانه وتعالى ، كان النقص والعجز والضعف والاحتياج إلى قوة أكمل وأقوى من طبيعة الكائنات كلها ، وهذه الصفة الكمالية التي يتصف بها الخالق الباري تعالى وتلك الصفة الاحتياجية التي يتصف بها كل الكائنات ، هي المعنية بقولع عز وجل “الله الصمد” .

فالصمد هو الذات المطلق الذي لا يحتاج إلى أي شيء وكل شيئ محتاج إليه ، أن هذه “الصمدية” هي الكلمة المعجزة في القرآن حيث لا يوجد لها لفظ مترادف يساوي معناه وفحواه في اللغة العربية نفسها فما بال اللغات الأخرى التي أقل شأنا في مثرة المترادفات وتعدد المعاني المتقاربة ، وأدنى مكانا في ثراء الكلمات والمصطلحات واستيعاب العلوم والمعارف والحضارات ؟ فكما أن “الصمدية” معجزة لغويا فإنما هي معجزة معنويا كذلك ، والله سبحانه وتعالى هو الكمال المطلق والقوة الأكمل ، وكل إنسان وكل جزء من الكون مهما كان قدمه وشأنه مخلوق من العدم ، ومركب من أجزاء وأشياء مركبة مقابلة للانتقاض والانتزاع ولانتهاء حسب مشيئة خالقه وإرادته ، وإلى هذا القانون الفطري الحق أشار الله تعالى وأرشج الإنسانية : “كل شيئ هالك إلا وجهه” ، وأيضا : “كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذي الجلال والإكرام” .

لزوم الاعتدال في متع الحياة الدنيا

لقد أودع الله تعالى في هذا الكون سماواته وأرضه ، وبحاره وجباله وغاباته ومناكبه ، أنواعا من الخيرات والطيبات والنعم ، ثم حث الناس على استعمالها والاستمتاع بها والاستفادة منها في الحياة الدينا ، فقال في آيات عديدة من كتابه الحكيم – دستور البشرية : يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا” ، و “فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه” ، و “وكلوا مما رزقكم الله حلالا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون” و “فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون” . وقال مخاطبا لرسله الكرام : “يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا” .

يجب أن يكون واضحا لكل من يحاول تحريم ماأحل الله تعالى لعباده من رزقه وطيباته وخيراته ، حلالا طيبا وزينة ومتعة فقال : “قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق” ، وقد كان أهل المعرفة والتقوى من السلف الصالح لا يمتنعون عن استعمال الطيبات من الرزق وابتغائه في مناكب الأرض ، وكانوا يلبسون الثياب الحسنة النظيفة النقية ويحافظون على حسن الهيئة والمنظر ، وخاصة في الصلوات والجمع والأعياد ولقاء الأصدقاء والضيوف والوفود .

ومن المؤسف جدا أنه قد اشتبه على بعض الناس ذلك الفرق الدقيق بينه مظاهر الكبر الممنوع وبين مظاهر الجمال وحسن الهيئة المرغوب في الإسلام ، وتبيانا وإيضاحا لهذه الشبهة القديمة والحديثة ، قد بين الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه هذا الفرق بكل صراحة ووضوح ، روى الإمام مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : “لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر” فقال الرجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا ، قال : “إن الله جميل يحب الجمال – الكبر بطر الحق وغمط الناس” ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه يلبس أحسن وأنظف ما لديه من ثياب ويتطيب ويكثر من دهن رأسه ، ويسرح لحيته ، ويفوح منه ريح الطيب لكل من يقرب إليه ، وكان يشدد في استعمال السواك وتنظيف الفم والوضوء والاغتسال والتزين في أيام الجمعة الأعياد .

وأما الإسراف في الاستمتاع بالحلال والطيب من المأكولات والمشروبات والملبوسات فهو ما حرمه الإسلام ، إذ قال تعالى في شأن المبذرين والمسرفين : “إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين” ..