مخططات محكمه لتطويق العالم العربي والإسلامي(1)

الخليج اليوم – قضايا إسلامية الخميس 16-أكتوبر-1986 م

الخوف من قوة الحضارة الإسلامية والرغبة في نهي ثروات الشرق وراء مخططات الغرب

(دراسة وتحقيق)

حينما هبت نفحات روح الإسلام في شعوب العالم شرقا وغربا ووصلت أشعة الحضارة القويمة إلى آفاقق أوروبا ، وتوغلت ملامح العلوم والمعارف الإسلامية إلى بلاد الغرب من بوابة الأندلس في العصور الذهبية لحكم الإسلام فيها أدركت أوساط المصالح الذاتية والمآرب الشخصية وشعرت الجهات المغرضة التي كانت تعيش على أكتاف عامة الناس ، وتمتص ثرواتهم وطاقاتهم زورا وبهتانا أن الإسلام هو الدين الفطري القويم فلا يدع مجالا للاستغلال والاستبزاز ولا يترك فرصة للنصابين والغشاشين والدجالين للضحك على ذقون الناس ونهب حقوقهم وأكل أموالهم سحتا وإفكا ولا يسمح لأصحاب الكهنوت والشعوذة لأن يستحوذوا على مشاعر الجماهير ويستولوا على أموالهم باسم النذور والعطايا والهدايا لأن الإسلام قد أعلن بكل قوة وصراحة ووضوح “لا رهبانية في الإسلام” ، فقد تكاتفت المصالح الكهنوتية والمطامع السياسية والأهداف المادية لتطويق المد الإسلامي وتكسير شوكة الحضارة الإسلامية وتفريق صفوف العرب والمسلمين .

حقيقة الإسلام

والفرق واضح بين ما كان يعرض باسم الدين في أوروبا وبين حقيقة الإسلام ، ولو نظروا إلى الإسلام بعين التحقيق والإنصاف لعرفوا أنه الدين الوحيد الذي يتلاقى مع العقل والعلم ويتناسب مع الفطرة البشرية السليمة ، ويدفع عن المجتمع البشري أو ضار الرذيلة والفساد يحارب الفقر والمرض ويعمل لتحقيق المساواة بين الناس فلا تفاضل بينهم إلا بالتقوى والعمل الصالح ويضمن حقوق الإنسان كاملة .

وكان الإسلام رائدا وسباقا في مجال العلوم والمعرفة الحديثة بحيث جاءت العلوم الحديثة تثبت ، بنظريات جديدة ، ما بادر القرآن إلى إثباته قبل مئات القرون ، وقد نشأ في كنف الإسلام علماء أفذاذ مهدوا طريق العلم لمن خلفهم وكانت أوروبا غارقة في ظلمات الجهل فأخذوا من المسلمين علمهم ونهضتهم .

الخوف من قوته وفتوحاته

وعندما رأى رجال الدين المسيحي في أوروبا الحضارة الغربية قد زعزعت أسس العقيدة المسيحية الكنسية التقليدية عند الشعوب الغربية وأخذت تشكك في كل ما يلقنون الناس باسم الدين ، شاهدوا بوادر الصحوة الإسلامية وأدركوا أن محاسن الإسلام وحقائقه سوف يكون لها تأثير في عقول الناس السليمة فخافوا قوة هذا التأثير على زعامتهم الدينية ، ومن ناحية أخرى كان رهبان الغرب وساستهم يعلمون على حد سواء ما تركته الفتوحات الإسلامية الأولى ، ثم الحروب الصليبية من قوة الإسلام ، فاشتدت حاجتهم إلى الهجوم على الإسلام والتشكيك في أحقية الحضارة الإسلامية ، وتشويه سمعته لصرف أنظار الغربيين عن نقد ما عندهم من عقائد وكتب ، وإدخال الوهم والشك في نفوس المسلمين أيضا ، ليسهل تطويق العالم العربي والإسلامي فكريا وسياسيا وعسكريا واقتصاديا .

إضعاف العقيدة ونشر الضياع الفكري

وأن إضعاف الرباط العقدي بين العرب والمسلمين ونشر الضياع الفكري وبث أسباب الفرقة في صفوفهم وتشتيت شملهم ، يساعد على تحقيق رغبة المستعمرين في الغرب والشرق ، في الاستيلاء على أراضي العرب والمسلمين وثرواتهم واتخاذ بلادهم أسواقا لترويج بضائع الدول الاستعمارية وكما أنها تستطيع أن تشتري الموارد الطبيعية الخام المتوفرة في العالم العربي والإسلامي بأبخس الأثمان ، وهكذا يمكن قتل الصناعة المحلية في كل بلد عربي وإسلامي فبالتالي يبقى العالم العربي والإسلامي في قيادة ركب الحضارة الغربية فاقد الثقة بنفسه ومستجديا مقاييس الأخلاق والعقائد من أحضان الغرب ، بحيث لا تقوم قائمة ولا تكون له شخصية مستقلة .

وإن حركة الاستعمار الغربي والاستشراق الفكري قد أدركت بطول المراس أن الجهود الضخمة البشرية والمالية والإعلامية بل والعسكرية والسياسية قد فشلت في تحقيق أهدافها إلا ضئيلا للغاية ، وأن البديل الوحيد عن هذه الجهود للدراسات العربية ، ومنها مدرسة (بادوى) العربية المعروفة ، وترجمت عدة مؤلفات عربية إلى اللاتينية .

بداية استعمار العالم العربي والإسلامي

واستمرت هذه الحالة حتى القرن الثامن عشر الميلاد ، حيث بدأ الغرب في استعمار العالم العربي الإسلامي والاستيلاء على ممتلكاته فانبرى عدد من رهبان الغرب ومفكريهم وعلمائهم ، متشجعين بالدوافع الدينية والسياسية للطعن في الإسلام وتشويه محاسن وتحريف حقائقه ليثبتوا ، افتراء وبهتانا ، لجماهيرهم الذين كانوا مبهوروين بحضارة الإسلام ومثله الإنسانية ونهضته العلمية والفكرية أن الإسلام لا ينبغي أن ينتشر في بلادهم وأنه يحرمهم عن الملذات الدنيوية ويبعدهم عن عاداتهم وتقاليدهم المتوارثة ، ثم اشتدت حاجة الغرب إلى الغزو العقدي والفكري بعدم هزيمتهم في الحروب الصليبية التي كانت حروبا دينية واستعمارية ف وقت واحد فاتجهوا إلى دراسة مواطن القوة في العرب والمسلمين ليضعفوهم فيها ، ومواطن الضعف فيغتنموه لإضعاف المقاومة الروحية والمعنوية في نفوسهم ، وبث الوهن والارتباك في تفكيرهم ، ومن هنا بدأ العالم العربي والإسلامي يئن تحت وطأة الهيمنة الاستعمارية في جميع مرافق الحياة البشرية .

دور المستشرقين في تدعيم الاستعمار الغربي في الشرق

إن الاستشراق اليوم علم قائم بذاته يدرس في الجامعات الكبرى في العالم ، ويقوم به الأساتذة المتخصصون في تدريس العلوم الشرقية وترجمة المؤلفات الشرقية ، والمستشرق هو الغربي الذي يقوم بدراسة العلوم والآداب واللغات الشرقية ولا يعرف بالضبط من هو أول غربي عني بالدراسات الشرقية ، ولا في أي زمن كان ذلك ، ولكن رأينا من البيان السابق أن بعض الرهبان الغربيين قد ذهبوا إلى الأندلس في عهد حكم المسلمين فيها ، ودرسوا اللغة العربية وترجموا القرآن والكتب العربية إلى لغاتهم .

وبعد التوسع الاستعماري الغربي في الشرق بدأ المستشرقون دراسة جميع ديانات الشرق وعاداته ولغاته وحضاراته مع عناية خاصة بالإسلام واللغة العربية نظرا للدوافع الدينية والسياسية ، وعقد أول مؤتمر عام للمستشرقين في باريس عام 1873م ثم توالى عقد مثل هذه المؤتمرات بتوسع واهتمام في شتى بلاد الغرب وهناك مراكز وأقسام عديدة مستقلة للدراسات الشرقية في الجامعات العلمية في الغرب كله ، وفي القارة الأمريكية ، وأن مهمة هذه الأقسام وهي تتبع كل ما يجري في العالم الإسلامي ثم دراسته وتحليله مقارنا بأصوله العقدية ومنابعه التاريخية ثم مناقشته مع صانعي القرار السياسي ، وفي ضوء تلك الدراسة الدقيقة توضع الخطط وتحدد الاستراتيجيات ووسائل تنفيذها في تلك المنطقة من العالم وتطويقها فكريا سياسيا وبالتالي حماية العالم الغربي من الأخطار الخارجية وإخفاء حقائق عن مناطق الاستعمار والاستقلال السياسي والاقتصادي .

زعزعة الرباط العقدي بين العرب والمسلمين

وقد أدرك واضعوا خطط الاستعمار والاستشراق في الشرق العربي والإسلامي قوة العقيدة الإسلامية ومناعتها ضد تغلغل الأفكار المادية والمعتقدات المناهضة ضد التوحيد فاتخذوا وسيلتين لزعزعة تلك العقيدة من نفوس العرب والمسلمين لكي يتسنى لهم التوغل إليها خفية لحقن الأفكار المادية العربية التي يساندها لاستعمار والاستغلال والعقائد المسيحية التي يساندها التبشير والاستشراق ويتضح هذا الهدف جليا من المقتطفات التالية من كتاب “العالم الإسلامي اليوم” للقسيس (زويمر) الذي كان رئيس ارسالية التبشير في البحرين بمؤازرة زملاء له ، جمعوا فيها تقارير ومباحث تاريخية واجتماعية كتبها المبشرون عن حال المسلمين القاطنين في مناطقهم التبشيرية ثم لخص الكتاب أفكارهم وانطباعاتهم في العبارات التالية :

” أنه لم يسبق وجود عقيدة مبنية على التوحيد أعظم من عقيدة الدين الإسلامي الذي اقتحم قارتي آسيا وأفريقيا الواسعتين ، وبث في ملايين البشر وشرائعه وتقاليده ، وأحكم عروة ارتباطهم باللغة العربية فأصبحوا كالأنقاض والآثار القديمة المتراكمة على جيل المقطم ، أو هم كسلسلة جبال تتناطح السحاب وتطاول السماء مستنيرة ذرواتها بنور التوحيد ومسترسلة سفوحها في مهاوي تعدد الزوجات وانحطاط المرأة ” .

وأن هذا الكلام الصادر من زعيم ارساليات التبشير في الشرق ، القسيس (زويمر) ومن أخطر مؤتمر تبشيري عالمي يقرر صراحة أن نشاط التبشير يهتم قبل كل شيء بزحزحة العقيدة الإسلامية من نفوس منتحليها وإبعادها بالتدريج عن المبادئ الإسلامية الخلقية وأن عقائد الإسلام وأخلاقه هي التي تسد التبشير المسيحي والاستعمار الصليبي عن توجيه ضربة قاصمة لصرح العالم العربي والإسلامي ، ويتبين من العبارة التالية من نفس الكتاب أن هدف التبشير الصليبي هو أولا وقبل كل اعتبار هدم الفكرة الدينية الإسلامية القائمة على عقيدة التوحيد ، ثم إنشاء أي شيء بعد ذلك ولو كان إثبات الوثنية في مقابل الإسلام أو عدم إنشاء شيء على الإطلاق ، وجاء في نفس الصفحة من الكتاب : “إن الكنيس المسيحية ارتكبت خطأ كبيرا بتركها المسلمين وشأنها إذ ظهر لها أن أهمية الإسلام في الدرجة الثانية بالنسبة إلى ثمانمائة مليون وثني ورأت أن تشتغل بهم ، رأت هذا وهي لم تعرف عظمة الإسلام وحقيقة قوته وسرعة نموه إلا منذ ثلاثين سنة فقط ، على أن أبواب التبشير صارت مفتوحة الآن في ممالك الإسلام الواقعية تحت سلطة النصرانية ” .

(يتبع)