في رحاب ذكرى مولد رسول البشرية(1)

الخليج اليوم – قضايا إسلامية الخميس 6-نوفمبر-1986 م

كان يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول الموافق للثاني من شهر أغسطس سنة 570 ميلادية ، نقطة التحول الهام والفصل التام في تاريخ الكون العام إذ شهد مولد سيد الكون ، ورسول الثقلين وخير البشر وخاتم الأنبياء والرسل محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم في قبيلة قريش بمكة المكرمة ، وعقب ولادته أرسلت أمه آمنة بنت وهب التي كانت أفضل فتاة في قريش نسبا وشرفا إلى حميها عبد المطلب تدعوه لرؤية حفيده فجاء إليها وقد سره أن جاء غلام وضيء مشرق لابنه عبد الله الذي توفي قبل أن تتم آمنة شهور حملها ، وحمل عبد المطلب المولود فرحا وقلبه بين عينيه ثم خرج به الكعبة فطاف به حولها ثم سماه “محمدا” قائلا :”أريد أن يكون محمودا في السماء لله وفي الأرض لخلقه” ! .

نشأته وطفولته

واحتضنته حليمة السعدية لترضعه كعادة نساء أشراف قريش حيث يرسلون الأطفال إلى المراضع من البادية ليترعرعوا في جو الصحراء النقي الطبيعي ويسرعوا في النمو وقوة الجسم ولوفرة اللبن المدرار عند نساء البادية والأرياف وأكثر من أهالي المدن والحضر ومضت سنتا الرضاع على محمد وترضعه حليمة وتحضنه ابنتها الشيماء ، ولما أن أوان العودة به إلى أمه ، كانت حليمة تتمنى أن لا يفارقها وتطول مدة حضانتها إياه وبعد رجاء واستعطاف قبلت آمنة أن تتركه فترة عندها ، وعاش محمد بين أحضان الصحراء النقية الخالصة مع أتراب حتى أتم خمس سنوات من عمره .

وكانت حليمة لا تزال حريصة على تربيته عندها ولكن قد حدثت واقعة عجيبة قد أدتها إلى الإسراع برد أمانتها الغالية إلى آمنة : حينما كانت حليمة يوما مع محمد مر عليهما نفر من نصارى الحبشة وما أن وقع نظرهما على الطفل حتى أقبلوا عليه يمعنون النظر فيه ويتفحصونه باهتمام ، ويسألون حليمة عن هذا الغلام ، ثم يحاورا فيما بينهم عن شأنه وقالوا :”لنأخذ هذا الغلام ، ولنذهب به إلى ملكنا وبلدنا ، فإن هذا الغلام كائن له شأن عظيم نحن نعرف أمره” فلما فطنت حليمة إلى غرضهم وبما يعتزمون في شأن محمد فزعت خوفا عليه أن يأخذوه منها أو يختطفوه أو ينالوه يمكروه فتحايلت حتى اختفت به من أمامهم وأفلتت به من قبضتهم بأعجوبة ، وأسرعت إلى آمنة حيث ردت إليها أمانتها فظل محمد في كنف أمه ورعاية جده .

وبعد فترة وجيزة سافرت أمه آمنة إلى يثرب في زيارة لأخوال جده من بين النجار فحملته معها وكانت في صحبتها أم أيمن جارية زوجها الحبشية التي خلفها لها من بعده . وهناك رأى محمد مع أمه البيت الذي مات أبوه فيه ، والمكان الذي دفن فيه ، وبعد الزيارة عادت آمنة مع طفلها محمد إلى مكة وفي الطريق مرضت وماتت ودفنت في منطقة “الأبواء” المعروفة الآن بين المدينة المنورة ومكة المكرمة .

و عاد محمد المولود يتيما وقد فقد الآن أمه أيضا ، تحتضنه أم أيمن ، وقد جاء محمد في جده عبد المطلب عناية ورعاية وحنان وبعد موت جده عبد المطلب كفل عمه أبو طالب ابن أخيه عبد الله بن عبد المطلب .

وقد أوصاه عبد المطلب قبل موته برعاية محمد والعناية به لأن أبا طالب كان أكثر أولاده نبلا وأطيبهم قلبا وإن كان أقلهم مالا ، وأحب أبو طالب ابن أخيه محمدا كحب عبد المطلب له من قلب ، حتى كان يقدمه على أولاده ويؤثؤه على نفسه ، لما كان يلمس فيه من الصدق والأمانة والنبل والعفة ويلحظ فيه من الذكاء والنجابة والفطانة .

ولما بلغ الثانية عشرة من عمره لاحظ أبو طالب فيه عقلا راجحا ، وذكاء خارقا وروحا عظيمة ووعيا المعيا وحار في أمره وكان يعامله معاملة الرجال الراشدين وصار يبادله الرأي والتشاور واصطحبه معه في رحله صيف لتجارة الشام مع كون الرحلة شاقة وطويلة ، وعناء السفر ووعورة الطرق .

وكان محمد يتجنب لهو الأطفال وعبثهم ويخرج إلى أسواق عكاظ ومجنه وذي المجاز وغيرها من الأسواق التي كانت تقام بجوار مكة في الأشهر الحرم التي يحرم فيها القتال ، وتوقف فيها الحروب ، وفيها تعرض بضائع من شتى الأنواع من شتى البلاد ، وفيها نتشد الأشعار والقصائد وتلقي الخطب وينشر كل عقيدته وآراءه ومبادئه بدون خوف لأنه في الأشهر الحرم ، وكذلك كان يخرج بأغنام أهله من قريش إلى الهضاب والبطاح ، وهناك يجد أمامه الآفاق الواسعة ليحلق بأفكاره ويسبح في ملكوت الله الواسع بتدبر وتفكر ، هكذا قضى محمد سنين صباه في الجد لا في اللهو وفي العفة لا في الزلة وفي التفكير لا في العبث فكان ساميا في خلقه ومثاليا في أمانته وصدقه حتى سماه أهل مكة “الأمين” وقد عرف بهذا اللقب بين كل الفئات والجماعات والقبائل وفي البدو الحضر بمكة وحواليها ، ولدى كل من يعرفه يعرف أهله وعشيرته من البلاد والأخرى في ذلك الزمان بحكم المتاجرة أو المصاهرة أو المجاورة .

شبابه وزواجه

ومرت السنوات وصار محمد شابا يافعا ، وكانت حياته وحدة وتفكير في نظام الكون ، وخلوة وعبادة وتأمل فيما يجري في هذا الكون من تدبير وتنظيم كما كان يفكر في نفسه وروحه ، وفي عادات وتقاليد قومه المنافية للذوق السليم ويمجه العقل الواعي من عبادة الأصنام ، ووأد البنات ، واستمرار الحروب والنعرات العصبية والقبلية .

وذات يوم اقترح عليه وعمه أبو طالب أن يعمل في تجارة خديجة بنت خويلد فكانت تستأجر الرجال والأمناء في الخروج بمالها للتجارة فوافق على ذلك الاقتراح لأن عمه كان يسعى ويكد في طلب ما يعود بالرزق والخير عليه وعلى ابن أخيه وإلا ولادة الكثيرين فخرجت قافلة التجار إلى الشام وذهب فيها محمد في تجارة خديجة بصحبة غلامها ميسرة ، وكان غلام خديجة ميسرة يحب محمد حبا جما ويطيع له طوعا كأنه غلامه ، وتصرف محمد فيما معه من التجارة بحكمة ولباقة وملاطفة وأمانة ، ثم أتى لخديجة بكل ما رغبته فيها من متاجر وبضائع ولما سمعت خديجة من محمد تفاصيل رحلته وبين لها ما باع وما اشترى وعرفها مقدار ما بلغه وربحها في تجارتها سرها حديثه وأعجبتها فصاحته وأمانته وأخبرها ميسرة ما كان من محمد بشأن تجارته وأثنى لها على صدقه وأمانته فقد امتلأت نفسها غبطة وسرورا ودهشة وإعجابا .

ومن قضاء الله تعالى وقدره وآيات مشيئته وإرادته أن خديجة بنت خويلد التي تزوجت مرتين من رجلين من أغنياء بني مخزوم وماتا عنها بعد أن خلفا لها مالا وثروة فصدت عن الزواج ورفضت يد كبار أشراف قريش وأغنيائهم التي مدت إليها ، ووقفت نفسها على تدبير مالها وانماء ثروتها ، فكرت وتمنت ورغبت في أن يكون هذا الشاب المسكين ، الأمين الصالح زوجا لها ، وتحدثت إلى إحدى المقربات إليها فهي نفيسة بنت منبه فقالت نفيسة ما عليك يا خديجة في أن تتزوجي الصادق الأمين .

وذهبت إلى محمد وتحدثت إليه في أمر الزواج بخديجة ، وبوغت محمد بهذا الاقتراح من خديجة فكان معجبا بأدبها وخلقتها وحزمها ، وعارفا بأن قومها يلقبونها بالطاهرة ، ولكنه لم يخطر بباله أن تفكر في الزواج منه لما يعلم من ردها أشراف قريش وأغنياءها ، ومن فقره وحالة عمه من ضيق المال وكثرة العيال ، وذهب إلى أبي طالب ينبؤه نبأ خديجة ودهش أبو طالب لهذا النبأ فقال :”عجبا يا بني أن ترد خديجة سيد قريش ذوي المال والجاه ثم ترتضيك أنت بعلا لها ” ، ثم قال أبو طالب لمحمد :” ولكنك يا بني أن افتقرت في المال فأنت غني في الشرف والنسب ” فقال محمد :” يا عمي إنني لا طمع لي في مال ولا حاجة بي إليه “، وذهب أبو طالب مع إخوته أعمام محمد يطلبون يد خديجة من عمها عمرو بن أسد وأخيها عمر بن خويلد – كما كانت العادة المتبعة في ذلك الزمان – لابن أخيهم محمد ، فقبلا طلبهم على الفور ، وسرعان ما حدد يوم الزواج وهكذا ثم زفاف سيدة قريش إلى أمين قريش وكان محمد في سنه الخامسة والعشرين ، وكانت خديجة في سنها الأربعين ، ولم يهمل محمد شؤون خديجة والأشراف على أموالها والحياة السعيدة معها على الرغم من تهجده وتأمله وكثرة خلوته وعبادته وشغل محمد بكل ما شغل به أهل مكة ، بما أصابهم من حدث السيل الجارف الذي هدم البيوت وصدع جدران الكعبة وأوهن أحجارها ، وبعد إعادة بنائها اختلف القوم فيمن يضع الحجر الأسود في مكانه وينال هذا الشرف ويكون له حق الاعتزاز في وضعه فكل فريق وقبيلة يرى أنه أحق بنيل هذا الشرف ، ومرت الأيام والقوم على حالهم ، واستعدوا للفصل فيه بحد السيف كالعادة الشائعة فيهم في مثل هذه الأمور العصبية والعرقية فوقف فيهم أبو أمية بن المغيرة المخزومي الذي كان أكبر سنا في قريش وله منزلة طيبة لدى الجميع وقال : يا معشر قريش كلكم في السؤدد والشرف سواء فلا تتشاحنوا ولا تتنافروا توبوا إلى أنفسكم ودعوا الحكم فيما اختلفتم فيه إلى أول قريشي يدخل عليكم من باب الصفا ، ورضي المتشاحنون ، بهذا الرأي .

وجلسوا ينتظرون وعيونهم معلقة بباب الصفا يترقبون من ستسوقه الأقدار للحكم بينهم وما لبث أو أهل من الباب شاب وسيم فما رآه القوم المترقبون حتى صاحوا “الأمين ” “الأمين” ! .

وقد رضينا بحكم محمد “الأمين” وسارعوا إلى محمد ، يعرضون عليه قضيتهم واستمع محمد إليهم وما كان يعلم شيئا عن قرارهم وحوارهم بهذا الشأن ثم قال : “هلموا إلى ثوبا” فأتى به ، فنشره وأخذ بيده الحجر الأسود فوضعه فيه فقال لهم ليأخذ كبير كل قبيلة بطرف من أطراف هذا الثوب ، ثم ارفعوه جميعا فتقدم كبراؤهم ، فأخذوا بأطراف الثوب ورفعوه والحجر الأسود بداخله حتى حازى مكان وضعه من بناء الكعبة فتناوله محمد من الثوب ووضعه في موضعه بين فرح القوم وتهليلهم بزوال الشر وانحسام النزاع بدون صدام واراقة دم ، وهكذا كان محمد الشاب مسموع الكلمة وصادق القول ، ونبيل المقام وحبيب القوم حتى أن يبلغ من سنه الأربعين ، وحتى ينزل عليه الروح الأمين بوحي رب العالمين ويبدأ البلاغ المبين .

(يتبع)