في رحاب ذكرى مولد رسول البشرية (2)

الخليج اليوم – قضايا إسلامية الخميس 13-نوفمبر-1986 م

مكانة المسجد الحرام والمسجد الأقصى في السيرة النبوية

قبل الهجرة أسرى به إلى المسجد الأقصى

وبعدها جهز جيشا لفتح القدس !

ذكرنا في المقال السابق ملامح من حياة صاحب الذكرى محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم في مراحل نشأته طفولته وشبابه وزواجه واكتسابه لقب “الأمين” بيم أهله وعشيرته وأقرانه وأصدقائه ومعارفه زجميع طبقات قومه بصفاته الحميدة وأخلاقه النبيلة واستقامته في مواقف الحياة كلها ، وكانوا يحكمون في المنازعات العويصة ، ويختارونه لفض المشاجرات والمناوشات بين العشائر والقبائل المتعددة ، كما حدث في واقعة النزاع حول وضع الحجر الأسود في مكانه بعد إعادة بناء الكعبة المشرفة ، لما أصابها من تصدع بسبب سيل جارف في تلك الفترة ، وكذلك زوجوه سيدة نساء قريش وهو في الخامسة والعشرين من عمره والآن نشير إلى ملامح من دعوته العالمية الخالدة.

بدء الوحي وفجر الدعوة

كان الشاب محمد بن عبد الله يتعبد وينفرد بنفسه في التأمل والتدبر في الكون وخالقه وفي عادات وطقوس قومه فإذا جاء رمضان انقطع للعبادة طوال أيامه في غار بجبل حراء شمالي مكة المكرمة ، وكانت عبادته على دين أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام ، كما كان في مكة في ذلك الزمان شيوخ أجلاء من قريش وغيرهم من قبائل العرب يعرفون دين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، ويتجنبون عبادة الأوثان والخمر ووأد البنات والميشر وغيرها من أعمال الشرك والخرافات ، وإذا عاد محمد من غار حراء يتوجه إلى الكعبة ويطوف ، ثم يذهب إلى خديجة وأولاده منها ، وكان له ثلاثة ذكور وأربع إناث من خديجة رضي الله عنها وهو القاسم والطيب والطاهر (ثم جاءه ولد من زوجته المصرية مارية القبطية ، وسمي إبراهيم وقد مات هو أيضا في صغره) ، وأما أولاده الثلاثة المذكورون من خديجة قد ماتوا قبل بدء الوحي وإعلان البعثة النبوية ، وهكذا ذاق محمد مرارة فقدان الأب والأم والجد الحنون وفقدان الأبناء قبل الأربعين ونزول الروح الأمين بوحي رب العالمين .

فبينما هو يعتكف ويتعبد بغار حراء في سنه الأربعين من عمره نزل عليه جبريل عليه السلام بأول وحي إلهي وهو الآيات الخمس الأولى من سورة العلق :”اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق ، اقرأ وربك الأكرم ، الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم” ، فقرأ محمد صلى الله عليه وسلم ما قاله الملك ن وقد نقش في قلبه وحفظ في صدره وطبع على لسانه ، وخرج من الغار مسرعا إلى البيت وقال لخديجة : “زملوني ! زملوني ! لأنه كان يرتجف ويرتعد فزملته خديجة رضي الله عنها ودثرته فلما هدأ وخفت عنه شدة الرجفة من روعة الحادث ومفاجأة الملك سألته خديجة عما أصابه وعما حدث في الغار ، ولما سمعت منه القصة قالت : أبشر يا ابن عم وأثبت فوالذي نفس خديجة بيده أرجو أن تكون نبي هذه الأمة والله لا يخزيك الله أبدا ، وإنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق ” وقد ذهبت خديجة إلى ابن عمها ورقة بن نوفل الذي كان حكيما ونصرانيا متدينا وقصصت عليه ما حدثها به محمد فقال ورقة :”والذي نفس ورقة بيده لئن كنت صدقتني يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى وعيسى وإنه لنبي هذه الأمة فقولي له : فليثبت ، وعادت خديجة إلى محمد صلى الله عليه وسلم تبشره بما بشرها به ورقة بن نوقل ، ثم أتاه جبريل عليه السلام بوحي آخر وهو :”يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ولا تمنن تستكثر ولربك فاصبر” .

أول من آمن بمحمد السيدة خديجة ويتبين دور النساء في الإسلام ونشر دعوته ونصرة رجاله ، من الدور العظيم الرائع الذي لعبته خديجة بنت خويلد ، سيدة نساء قريش في الإيمان برسالة الرسول صلى الله عليه وسلم في اللحظة الأولى لسماعها منه ، والعطف والحنان والإشفاق الذي كانت تصبه عليه حتى آخر لحظة من حياتها التي هي صفحات مجيدة وخالدة من الفضل والكرم والعون على هذه الرسالة وصاحبها والمؤمنين بها فكانت خديجة أول من آمن بمحد عليه السلام وأول من صلى وراءه كما كانت أول من سمع وحيه وأول من نظر إلى الرسول الأكرم بعد بعثة رسولا ونبيا .

وأما أول من آمن به وصدقه أبو بكر بن أبي قحافة الذي لقبه الرسول صديقا لصدفه ونزاهته وكان علي بن أبي طالب أول من آمن من الشباب ثم زيد بن حارثة ويليهم في الإيمان به بعض كبار الصحابة مثل عثمان والزبير وعبد الله بن عوف وسعد بن أبي وقاس وطلحة وأبو عبيدة والأرقم بن أبي الأرقم ومن النساء بنات الرسول وبنات أبي بكر رضي الله عنه .

الجهر بالدعوة بعد ثلاثة سنين

استمرت الدعوة إلى الإسلام منذ نزول الوحي لمدة ثلاث سنوات منحصرا بين عشيرة النبي صلى الله عليه وسلم وبين من يثق فيه من قومه في ضوء الإرشاد الإلهي : “وأنذر عشيرتك الأقربين” وكانت عبادتهم واجتماعاتهم لم تكن علنا وعلى مشهد عام لملأ قريش ، مع أن الدعوة ومراحل سيرها ليست خافيه على قريش وهكذا كثر أتباعها وثبت غرسها وقوى أمرها ، وجاء حينئذ أمر الله تعالى لأن يجهر بالدعوة فنزل الوحي واضحا جليا :”فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين أنا كفيناك المستهزئين الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون ، ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين” (الحجر : 94-99) ، وصدع الرسول وأصحابه الأولون الكرام بما أمره الله تعالى ، وبعد تفكير عميق ودقيق ودراسة كل الظروف والملابسات والتوقعات صعد الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أيام من ذلك الأمر على الصفا فنادى يا معشر قريش فاجتمعوا جميعا حوله لأنه الصادق الأمين ويقف على مرتفع بجوار الكعبة وهو الصفا ، فقال :”أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا تخرج بسفح هذا الجبل ، أكنتم تصدقونني ، قالوا : نعم ، ما جربنا عليك كذبا قط ، قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ، يا معشر قريش ، أنقذوا أنفسكم من النار ، فإني لا أغني عنكم كم الله شيئا ، لأني أدعوكم إلى أن تشهدوا أن لا إله إلا الله وإني رسول الله ، فانتصب أبو لهب من بين الجمع وصاح غاضبا : تبا لك ألهذا جمتعنا ؟ ، وبعد بقليل نزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي الإلهي يعرفه وأمته مصير أبي لهب الذي أعده الله تعالى له : “تبت يدا أبي لهب وتب ، ما أغن عنه ماله وما كسب ، سيصلى نارا ذات لهب ” وبعد الجهر بالدعوة تكاثر المسلمين واشتد إنكار المشركين المعاندين ، وتشاور المشكرون في أمره صلى الله عليه وسلم والخطر المحدق بهم وآلهتهم وخرافاتهم بسبب انتشار دعوة محمد في أرجاء البلاد وتوسلوا إلى أبي طالب عمه الذي يكفله ويحميه ، لمنع ابن أخيه من الاستمرار في دعوته التي سفه آلهتهم وترك عبادة أوثانهم ، وطالبوا منه كف محمد عن التعرض لدين آبائهم وعقائدهم على أن لا يتعرضون له في دعوته وردهم أبو طالب ردا رقيقا حسنا بحكمة ولباقة ، ولما امتنع أبو طالب من أن يتخلى من ابن أخيه ، وعن أن يتشدد معه بل أعلن الوقوف بجانبه بكل جرأة وشجاعة وتضحية وشرب قررت قريش مقاطعة أبي طالب وعشيرته لتضييق الخناق عليهم .

دور أبي طالب في نصرة الرسول ودعوته

ما سجل التاريخ الإسلامي دورا بطوليا ومتفانيا في سبيل نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم وحماية دعوته في مراحلها الخطيرة المحفوظة بالمتاعب والمشاكل والعراقيل من أقرب الأقارب وأقوى العشائر ، مثل ما سجله للرجل الشريف النبيل البطل الوفي الأمين أبي طالب بن عبد المطلب ، العم الحنون الكفيل لمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم في طفولته وشبابه والفترة الأولى الحاسمة لدعوته وقد استمر في هذا المستوى النادر الفريد من الحماية والنصرة والتضحية في سبيل محمد ودعوته حتى آخر لحظة من حياته ، ولما عرض أبو طالب في أحرج فترة يمر بها بنو هاشم من عداوة قريش ومقاطعتها ومؤامراتها للقضاء على محمد ودعوته ، أن يتساهل قليلا مع قريش وإجابة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم بقوله : :أي عم ، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر لن أتركه ، حتى يظهره الله ، أو أن أهلك فيه” ، قال له أبو طالب : “اذهب با ابن أخي فقل ما أحببت فوالله لا أسلمك لشيء أبدا” فما أروع هذه الوقفة وهذه النصرة ؟ .

الحكمة الكامنة في الإسراء والمعراج

وشهدت الفترة المكية لدعوة الإسلام قبيل الهجرة إلى المدينة ثلاث حوادث أو فواجع خطيرة في تاريخ هذه الدعوة وهي وفاة عم الرسول أبو طالب ووفاة زوجته خديجة رضي الله عنها وشدة الإيذاء الذي لاقاه الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم من أهل الطائف ، فصار بحكم طبيعته البشرية حزينا وكئيبا ومكروبا وحيدا في غمره المشركين وشدة المعارضين وكان قلبا حائرا حول مصير ضعفاء المسلمين في وسط أقوياء الظالمين ، وفي هذه الفترة الحرجة أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى بالقدس الشريف ومنه عرج به إلى السماوات العلا ، حيث جلال الملكوت وجلال العرش ولكي يشاهد عظمة الخالق ، ويظهر له ما شاء من آياته ويثبت قلبه وينشرح صدره ويتم الربط الرباني بين السماء والأرض ويكتمل الفيض الإلهي على خاتم الأنبياء والرسل ، حيث التقى بهم جميعا وصلى إماما لهم في المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله .

رلقد اختار الله سبحانه وتعالى المسجد الأقصى بالقدس الشريف ، من بين بقاع الأرض مسرى لخاتم النبيين ، كما اختاره بداية لمعراجه إلى السماوات العلا ، لحكمة شاءها رب العالمين وهي : ربط ماضي وحاضر ومستقبل الدعوة والإلهية ، وربط حلقات الرسالة السماوية ومراحل النبوات كلها برباط مشهود وملحوظ ، وبما أن محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء ووارث أصول النبوات السابقة كان من الحكمة الإلهية أن يربط بين المسجد الأقصى الذي كان مركز أنبياء بني إسرائيل كلهم والقبلة الأولى لخاتم النبيين والمسلمين وبين المسجد الحرام الذي بمكة حيث أول بيت وضع للناس ومقام إبراهيم أبي الأنبياء ومركز الحج وقبلة المسلمين جميعا ، وهكذا قد ربض الإسراء والمعراج بين القدس ومكة في عقيدة المسلمين بفضل مسجديهما : الحرام والأقصى ، فيقول رب العالمين : “سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا أنه هو السميع البصير” (الإسراء : 4) .

وبعد ثبوت ارتباط المسجد الحرام والمسجد الأقصى بالعقيدة الإسلامية عن طريق الإسراء والمعراج بنص القرآن ، ربط النبي صلى الله عليه وسلم بين هذين المسجدين بمسجد الرسول بالمدينة المنورة فقال :”لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى” (متفق عليه) .

وهكذا قد أصبحت هذه المساجد الثلاث في هذه المدن الثلاث مراكز القيادة الإيمانية والحضارية لأمة الإسلام .

سعي الرسول لفتح القدس بعد فتح مكة

وبعد فتح مكة وتطهير المسجد الحرام من الأوثان والوثنية وحولته من الجاهلية إلى الحنيفية الفطرية البيضاء ، عقد عزمه لفتح القدس وتحريرها وتطهير المسجد الأقصى من استعمار الرومان وجاهليتهم ووثنيتهم لأن كلا منهما مهبط الوحي الإلهي ومركز الأنبياء ومقر العبادة الخالصة لله عز وجل ، وبعد غزوة مؤتة التي كانت أول مواجهة مع الروم الذين كانوا يحتلون فلسطين وبلاد الشام ، ثم قاد رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين في غزوة تبوك وكان يتوجه إلى تحرير تلك البلاد ، ولكن قبل وفاته جهز جيشا وأمر أن ينطلق ذلك الجيش تحت قيادة أسامة بن زيد ، أصغر قادة الجيوش في التاريخ ، نظرا لبطولته ورجاحة عقله ونجابة ذهنه ، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم قد التحق بالرفيق الأعلى قبل انطلاق ذلك الجيش ثم انطلق في عهد أبي بكر رضي الله عنه وقد تحقق للمسلمين النصر العظيم في اليرموك ، وقد تم فتح مدينة القدس في عهده رضي الله عنه ، وتولى عمر بنفسه مهمة استلام المدينة والمسجد الأقصى وتطهيره من رجس الكفر والفساد ووثنية الرومان ، وجدير بالذكر أن القدس هي المدينة الوحيدة التي ذهب إليها عمر بنفسه بعد الفتح وذلك لعظيم شأنها ومكانتها في تاريخ الإسلام ، ومنذ ذلك الحين صارت القدس مركز للحضارة الإسلامية ومصدر الفتح الإسلامي إلى حصن من حصون العلم والدين وبني الخلفاء المسلمون فيها معالم الحضارة مثل قبة الصخرة المشرفة التي بناها عبد الملك بم مروان ، وكذلك مسجد عمر ، وشيد القائد نور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي عدة مساجد والتكايا والقلاع والحصون الحضارية ، وهكذا قبل الهجرة حقق الإسراء والمعراج الفتح الروحي والفكري للقدس وربطها بمكة ثم تحقق الفتح السياسي والعسكري والحضاري للقدس وفلسطين كلها بعد الهجرة وإذا كان المسجد الأقصى مرتبطا ارتباطا وثيقا بالإسلام والمسلمين عقيدة وعبادة وحضارة بصفات ثلاث : مسرى الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم وقبلته الأولى وثالث المساجد التي يحث النبي صلى الله عليه وسلم على زيارتها والصلاة فيها ، وإذا طرأت حالة تحول دون وصول المسلمين إلى أحد هذه المساجد والصلاة فيها فتكون تلك الحالة تحت دعوة قوله تعالى لتحريرها تطهيرا : “ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم” (البقرة : 114) .

وإذا كان المسجد الأقصى واقعا تحت طائلة المنع عن دخول أي مسلم للصلاة فيه أو السعي في خرابه أو تعرضه للامتهان والتدنيس فصار واجبا على المسلمين تحريره وتطهيره فما بالهم إذا اجتمعت في حق الأقصى هذه المظالم الثلاثة بأيدي أمة الفساد الإلحاد ؟ .