رمضان شهر الوقاية من كل خلق ذميم

في رحاب رمضان المبارك

رمضان شهر الوقاية من كل خلق ذميم

الخليج اليوم – قضايا إسلامية الأربعاء 14-مايو-1986 م

حين أمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين بالصيام في رمضان ذكر حكمته وفائدته وغايته القصوى بكلمة واحدة موجزة ومعجزة في كتابه الحكيم :”يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون” (البقرة : 183) وقد تبين من جملة “لعلكم تتقون” أن الحكمة من تشريع الصيام هي التقوى والاتقاء ، وأن كلمة “تتقون” بصيغة فعل المضارع تدل على التجدد والاستمرار والفعلية والفاعلية كما أن حكمة الصيام تدور من كل ما يشتق من هذه الكلمة المعجزة لفظا ومعنى وخلقا وسيرة وعادة ومنهجا في الحياة ، وأما “التقوى” فهو كل فعل وقول وخلق يحبه الله تعالى ويثاب صاحبه عليه في الدنيا والآخرة ، وأن “الإتقاء” المشتق منها يعني الوقاية من كل شر وخطأ وفساد في أي مجال كان من مجالات الحياة وفي مقدماتها الخلق الذميم الذي يؤدي نفسه أو الآخرين .

الصيام يحمي المجتمع من الفساد

إذا عرفنا أن الصيام إنما هو وقاية للأفراد الصائمين المؤمنين من كل خلق ذميم يؤذي الإنسان فإنه بالتالي يحمي المجتمع الذي يتكون من مثل هؤلاء الأفراد من أنواع الفساد والفتن والفوضى ويستتب بين صفوفه الوئام والأمن والنظام ، وهذا معنى قوله تعالى في بيان حكمة الصيام : “لعلكم تتقون” أي بصيغة الجمع الذي يدل على أن فائدته تعود على المجتمع بأجمعه وتتعدى منفعته دائرة الحدود الشخصية لكل فرد يقوم بهذا الواجب ، وإشارة إلى هذه الغاية القصوى الشاملة العامة يقول النبي صلى الله عليه وسلم : “إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد ، فليقل :إني صائم” (متفق عليه) ثم قال :”من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه” (البخاري) .

ومن آداب الصائم أن يترك الرفث والفسق والسب والغيبة والنميمة وغيرها من الأخلاق البذيئة التي تجرح شعور الآخرين فإن الامتناع عنها بصورة قاطعة وحاسمة تحت قوة نفوذ الصيام ، ولا شك في أن هذا المتناع الحاسم سوفف يترك فائدة جماعية في صف المجتمع وينشر فيه شعورا بالراحة والطمأنينة ، ومن هنا قال النبي صلى الله عليه وسلم :”إنما الصوم جنة أي رقابة من كل خلق ذميم فإنه يعود الصائم ليلا ونهارا ، سرا وجهارا ، على صلة بالله واطلاعه على علانيته وأسراره ، وسلطانه على قلبه ونعمته التي لا تحصى ينعم بها هو وأسرته ويذكر أيضا أنه عبد محتاج إلى رزقه وتوفيقه ولطفه ، فإذا استقرت هذه الفكرة في ذهنه فإنه يخجل من الكذب والظلم والغش والخيانة والسرقة والغيبة والنميمة والإيذاء والعدوان على الناس في أعراضهم وأمولهم وحقوقهم .

التذكير بالصلة الاجتماعية

يذكر الصيام بصلته بمجتمعه الذي يعيش فيه ، لأن الصائم حينما يفطر يقول :”اللهم لك صمت على رزقك أفطرت” ، وهنا يتذكر ويعترف بأن الرزق من الله تعالى وأنه لا يملك شيئا إلا ما أعطاه الله ومنحه بمحض فضله وكرمه ، وأن هذا الدعاء يذكر الصائم صلته بالله أولا ثم صلته بأمته كم يتذكر بالتالي حقوق الفقراء والمساكين وخاصة الأقارب منهم والجيران ، وهكذا يذكر أنه من المجتمع ويشعر بجوعه وفقره ومتاعبه ومشاكلة ، ومن هنا تكون نفس الصائم أسمى النفوس صفاء وعطاء ويتذكر حاجات الآخرين وكان النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان أجود الناس ولكنه كان سخاؤه وجوده كالريح المرسلة كما جاء وفي هذه الرواية الصحيحة ، روى عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس ، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل ، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن ، والرسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة ” (متفق عليه) .

وتسمو نفس الصائم في رمضان يحس بحاجات ومطالب المجتمع وتوطد صلة القربى وصلة الجوار وصلة الصداقة وصلة الزمالة ويجتمع الجميع على مائدة الإفطار ويتناولون جميعا طعام الإفطار شاكرين نعمة وذاكرين عظمته ومتابادلين كلمات المحبة والأخوة ثم ينصرفون من ذلك الجو الأخوي الودي إلى الجوامع والمصليات لأداء صلاة العشاء والتراويح جماعة حيث تتجلى فيها أيضا مظاهرة الألفة والوحدة ، وكان رمضان حقا وواقعا شهر التذكير بالصلة الوثيقة بين المؤمنين لا طلبا لمصلحة ذاتية وشهرة وقتية أو بمداهنة جوفاء أو مجاملة خوفاء كما تجري العادات الحفلات والاجتماعية الرسمية والمصلحة ذات المآرب الشخصية ، ولكن هذه الاجتماعات التي ذكرناها في مختلف مناسبات رمضان إنما هي ابتغاء لوجه وطلب مرضاته وعلى الأقل يجب أن تكون كذلك وإنما الأعمال بالنيات ولكن أمري ما نوى .

ومن أهم ميزات الصيام عبادة مستوره بمعنى أنه ستر بين الإنسان وربه ولا يطلع عليه أحد مثل العبادات البدنية والمالية الأخرى ، كالصلاة والزكاة والحج ، وأن مجال الرياء والخداع فيه ضئيل جدا ، وأن الله وحده هو المطلع على صدق نيته وما في قلبه من الباعث على القيام بهذه العبادة ، وهكذا يساعد الصيام المؤمن الصائم على تعويد نفسه على أعظم وأكبر خلق إسلامي وهو الإخلاص وكذلك التزام الصدق في قوله وعمله وإذا ترك طعامه وشرابه خالصا لوجه الله تعالى بدون أي ضغط خارجي ولا لمداهنة أو لمجاملة فإنه يطهر نفسه من داء خداع الآخرين والرياء ومعهم فيلزم لسانه الصدق وقلبه الإخلاص وجوارحه الحق والعدل ، حتى يكون مستعد لمقابلة الإساءة بالحستى البذاءة بالمصابرة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بهاه عن أن يقابل الإساءة بالإساءة وهو صائم ، وأن يرد على الشتمية بالشتمية فقال :”فإن شائمة أحد أو خاصمة” فليقل :”إني صائم” ، ومعناه الحقيقي : إنني لست في حالة تسمح لي بالمخاصمة أو المشاتمة وإنني إن كان تحت رقابة شديدة ودقيقة في ظل عبادة سرية بيني وبين ربي وعندي الآن سواء المدح والثناء والعتاب والسباب فلا أخاصم أحدا ولا أوذي أحدا ، ويا لها من من أخلاق فاضلة ورقابة محكمة !

رسالة الخير والسلام

رمضان يؤهل المسلمين أهلا لحمل الرسالة المحمدية الخالدة إلى شعوب العالم ، بعد أن وطد في نفوسهم معاني الحق والعدل ، ومعاني الخلق الكريم والسلوك القويم ، وبهذه الصفات يكون المسلمون في الثبات على الحق والدعوة إليه التخلق به ، وعندما يكون المجتمع الإسلامي مسلحا بسمو النفس وشرف الهدف ونبل الغاية وإشراقة الروح وهداية القلب سيصبح خليقا للانتماء إلى رسول الحق وكتاب الحق جديرا بأن يكون خير أمنة أخرجت للناس ، حيث تقود الناس إلى الخير والسلام ، وهكذا يعتبر شهر رمضان موسم التدريب وإعداد النفوس القوية الصافية لحمل دعوة القرآن إلى آفاق الدنيا في مختلف الظروف والبيئات ، وإلى هذا الارتباط الوثيق الخفي والجلي بين ذكري نزول القرآن دستورا خالدا للبشر جمعا وبين فرضية الصيام على المؤمنين في هذا الشهر الذي بدأت فيه صلة السماء بالأرض أشار القرآن في سياق هذه الفرصة والحكمة فيها إذ قال :”شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه” (البقرة : 183) ، فهناك حلقات ثلاث مترابطة التي هي في غاية الإعجاز والإيحاء والإيعاز فهي نزول القرآن وكونه هدى وفرقانا للناس جميعا وفرضية الصيام على اتباع هذا الكتاب وأمة خاتم الأنبياء الذي أنزل عليه لإبلاغه إلى كافة الثقلين فيجب أن يكون هذا الشهر مظهرا حيبا للمنهج القرآني !! …