حضارتان متكاملتان : الهندية والعربية

صوت الهند – أبريل 1965 م

عرف العالم حضارات ثلاث من أقدم حضارات الدنيا وأبقاها على الأيام بما تركته من تراث باهر ملموس ، وهي حضارة الهند ، وحضارة السومريين في أرض الجزيرة ، وحضارة مصر في وادي النيل ، واتصلت هذه الحضارات الثلاث ، واشتركت في كثير من المبادئ والمظاهر ، فمن الطبيعي أن تكون العلاقة بين الهند ، صاحبة الحضارة الأولى ، والعالم العربي ، صاحب الحضارتين الأخريين ، موطدة الأركان ، ومدعمة الأساس ، فليس في العالم الشرقي صلة بين الإقليمين على البحر ، مثل الصلة الجغرافية التي تربط بينهما ، لأن الشاطئ الذي تقوم عليه هاتان الحضارتان هو امتداد لشاطئ الآخر ، فقد اتصل أهل الهند ، وأهل الجزيرة العربية ، قبل التاريخ المعروف بزمن بعيد .

وقد أحدث هذا التقارب الجغرافي تقاربا في وجهات النظر في الأمتين ، وتشابها في نظرتهما إلى حقائق الأمور ، وفي تقدير قيم الأشياء كما ذكر ذلك الإمام الشهرستاني المتوفى سنة 548هـ – 1153م في كتابه “الملل والنحل” في معرض تقسيم أهل العالم بحسب الأمم :”كبار الأمم أربعة ، العرب والعجم والروم والهند ، ثم زواج بين أمة وأمة ، وأن العرب والهند يتقاربان نحو مذهب واحد ، وأكثر ميلهم إلى تقرير خواص الأشياء ، والحكم بأحكم الماهيات والحقائق واستخدام الأمور الروحانية .

وجه التشابه بين الحضارتين

كما عمل الموقع الجغرافي في عمله في التقريب بين بلاد الهند وبلاد العرب ، ساعد التقارب القديم بين اللغتين السنكسريتية والعربية ، على تكامل الخصائص الفكرية ، والملكات النفسية ، لأن اللغة السنسكريتية واللغة العربية ، تشتملان على كلمات متشابهة للأشياء الطبيعية والصناعية ثم تتشابه هذه الكلمات في فروع اللغات الأوربية المعروفة “بالهندية الجرمانية” ، وهكذا سبقت العلاقة بين الأصول للزمن الذي أدى إلى انقسام اسلالة البشرية إلى القسمين اللغويين الكبيرين ، الآري والسامي .

وظهر أثر التكامل بين الحضارتين بطريفة واضحة في مجال الثقافة الروحية فلما التقت حركة “البهاكتي” البرهمية ، “والصوفية الإسلامية” في القرن الثاني عشر للميلاد بعد دخول الإسلام إلى الهند ، وانتشر الصوفيون في أنحائها ، حدث تبادل في الآراء والأفكار الروحية بين خصائص الأمتين ، ومنهج التفكر والإدراك الفلسفي بينهما ، كما تأثر أبو العلاء المعري تأثرا عميقا بمذهب الزهد الهندي ، حيث عاش حياة عزلة وتقشف ، كما يعيش ناسك من نساك الهنود .

التصوف والفلسفات الهندية

إن أثر التصوف الإسلامي في الهند كان أثرا اختياريا غير مباشر في مراحله الأولى ، وكان بعض الفلاسفة الهنود ، مثل شانكر ورامانوجا في جنوب الهند ، يسايرون في تأملاتهم ، وتعاليمهم الفلسفية ، نظام الصوفية ، فإن حركة “البهاكتي” المبنية على الفلسفة الهندية تشتمل على أمثلة عديدة من سلطان التصوف الإسلامي ومنها التمسك الشديد بالوحدانية والتعبد الانفعالي ، وعدم الاهتمام بالطقوس الظاهرية ، ونظام المرشد والمريد ، كما أنها تقوم على فكرة الخلاص من العبودية الأرضية عن طريق تزهد ، وتعبد ، وفي الوقت نفسه تأثرت الصوفية في العصور المغولية في الهند بتلك الحركة .

وترجم بعض المؤلفات البوذية التي تتناول شؤون الحياة ، وتحتوي على تعاليم بوذا إلى اللغة العربية ومنها كتاب “بوداساف” وبلاشر” ولا شك أن انتقال الفلسفة الهندية ، والمعرفة التي تدور حول الديانات البوذية والهندوكية ، قد ترك أثرا في بعض المفكرين العرب ، كما رأيناه واضحا في آراء أبي العلاء المعري ، في الزهد والرياضة النفسية .

ماذا قدم العرب للهند ؟

ازدهرت الحضارة والثقافة العربيتان خلال العصور الوسطى بحيث تضارعان أسمى ما بلغه الرقي في أي مجتمع آخر في التاريخ ، وفي أثناء التطورات استوعبت الحضارة العربية خيرما في الحضارات القديمة والحضارات المعاصرة في شتى أرجاء العالم ، حتى أصبحت الأمة العربية في بداية القرن التاسع الميلادي من أكثر الأمم تقدما في الميادين العلمية والفنية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها .

وإن العلاقة الوطيدة بين الهند والعرب في تلك الفترة كانت واضحة وملموسة ، فمن الطبيعي أن يعطى العرب أفضل ما عندهم من تراث إنساني للهند ، بطريق مباشر أو بطريق الشعوب الأخرى التي تشربت من الحضارة العربية ، كما قدمت الهند بدورها للعالم العربي مما كانت تملكه من تراث قيم من العلوم والفنون والفلسفة .

الطب العربي القديم

من بين العلوم العربية التي انتقلت إلى الهند واستقرت في ربوعها وترعرعت في أكنافها الطب العربي المعروف بالطب اليوناني ، وكان هذا الطب متأثرا بنظريات أبقراط وجالينوس ، فاتخذه العرب نظاما للعلاج في القرون الوسطى ، وهو الآن معروف في الهند بين جميع الطوائف ، وقليل التكليف ، وهو مبني على العلاج بالأدوية المضادة .

ومن أشهر دور العلاج بالطب العربي في الهند اليوم “مؤسسة” همدرد العلاجية” ، ولها فروع في جميع مدن الهند الرئيسية ، حتى صارت ذات شهرة عالمية ، وإذا زرنا مقرها الرئيسي في دلهي عاصمة الهند ، نرى النظام العلاجي العربي القديم من تفريط العقاقير والأعشاب ، واستحضار الأدوية المختلفة وأنواع المراهم التي تحمل الأسماء العربية القديمة ، وتعتبر الهند البلد الوحيد في العالم الذي يحافظ على هذا التراث العلمي ، بعد أن انقرض في البلدان العربية نفسها .

الفن العربي المعباري

في مقدمة معالم الفنون العربية ، التي أحدتث تطورا خالدا في تاريخ العلاقات العربية الهندية ، الآثار العربية الشاهقة في الأساليب المعمارية الظاهرة في معظم العمارات الهندية التاريخية ، أثناء الحكم الإسلامي في شبه القارة ، ومن خصائص الفن المعماري العربي القباب البيضاوية ، والمآذن المستقيمة والرحاب الواسعة ، وكذلك الواجهات العالية ذات الخطوط الواضحة ، مع الزخارف السطحية .

ومن أجمل آثار الفن المعماري العربي الهندي “تاج محل” أحد عجائب العالم السبع ، ومنارة القطب أقدم المعالم الإسلامية في دلهي ، وكذلك مئات المساجد والقلاع والأضرحة المنتشرة في أرجاء الهند ، وتقف هذه المعالم مثلا حيا لما قدمه العرب للهند من أحسن ما جادت به قرائحهم .

أثر الفكر الإسلامي

يشير التاريخ إلى أن الإسلام وجد أرضا خصبة في الهند منذ دخوله إليها ، لنشر دعوته في جو من الحرية والأمان ، وتفتحت زهور هذه الدعوة في ربوعها ، وأثمرت ثمارها اليانعة ، بدون أي صدام مع الأديان المحلية القديمة ، والمعتقدات والأفكار التي توارثتها الهند جيلا بعد جيل ، ويرجع الفضل إلى تسامح الهند وبساطتها المتسمة بالترحيب بكل ما يرد إليها من ثقافات وحضارات وأفكار تلائم طبيعتها ، وكذلك يرجع الفضل إلى دعاة الإسلام الصالحين الذين اتبعوا طريق الدعوة والإرشاد ، مع الحكمة والموعظة الحسنة ، وانتشرت الجاليات الإسلامية في السواحل الهندية الجنوبية والغربية ، وبدأ أثر الفكر الإسلامي يتغلغل في آراء الهند الدينية والفلسفية ، كما هو واضح في الاتجاه الفكري لعدد كبير من الفلاسفة الهنود والنساك ، مثل شنكر ورامانوجا وغيرهما ، أما أثر تعاليم الصوفيين وطرق تعبيراتهم فظاهر في آراء وطرق هؤلاء النساك الهنود المصلحين ، وترى آثار الثقافة العربية منتشرة في كثير من البقاع التي اختلطت عاداتها وتقاليدها مع التقاليد والعادات العربية ، مثل ملابار وجوجرات والسند والبنغال وغيرها .

اللغة العربية

كان للغة العربية بقوة سحرها ، وغزارة مادتها أثر مرموق في اللغات الهندية ، ويتبين الأثر العربي بطريقة هائلة في اللغات الأوردية والسندية والبنجالية ، والملايالمية والجوجراتية والتميلية ، وتستمد اللغة الأوردية أصولها جميعا ، وكذلك بناء الكلمات وصورها وأسمائها وخطها من اللغة العربية ، وأما اللغة السندية ففيها كلمات كثيرة من اللغة العربية وخطها وكثير من أساليبها التعبيرية أشبه بالعربية منها بأية لغة هندية أخرى ، والأثر العربي يمكن تبينه في اللغة البنجابية ففيها كلمات عربية ، كما تكتب أحيانا بخط عربي .

وإن طابع النفوذ العربي في اللغة الملايالمية التي هي لغة الموطن الأول للمهاجرين العرب في الهند ، تلمسه في كلماتها ومصطلحاتها ، بل وكان بعض المسلمين – وما زالوا – يستعملون الخط العربي في كتابة هذه اللغة .

كما كان يفعل بعض الجماعات الجوجراتية في كتابة اللغة الجوجراتية وأما اللغة التميلية فهي من أقدم اللغات الهندية ، وهي الآن منتشرة في مقاطعة مدراس وحواليها ، ومع قدم تاريخها ، وغزارة أدبها ، فإن للغة العربية الساحرة أثرا بالغا في ألفاظها وطرق تعبيرها .

اهتمام الحكومة بالعربية

هذا وإن اللغة العربية تدرس حاليا في جامعات الهند ومعاهدها العلمية واللغوية ، وهناك كليات عربية ، ومدارس إسلامية ، لتعليم اللغة العربية ، وآدابها ، والعلوم الإسلامية بشتى أنواعها فما زال المسلمون في جميع أنحاء الهند يقرأون القرآن ، والأدعية والأوراد الدينية كلها باللغة العربية ، ويتهمون أي اهتمام بنشرها والتفهم لأصولها وقواعدها ، لأنها لغة القرآن والعلوم الإسلامية ، وتعتني الحكومة الهندية عناية فائقة باتخاذ الاجراءات اللازمة لتعليم اللغة العربية في المعاهد العلمية الحكومية ، وفتح أفسام لها في جامعاتها إلى جانب منح المساعدات للمدارس والمعاهد الأهلية في هذا السبيل ، وكذلك توسع نطاق التبادل الثقافي بين الهند والعالم العربي ، وتقرير منح دراسية خاصة للراغبين في تعلم اللغة العربية وآدابها ، سواء في داخل الهند أو خارجها .

المعلومات الفنية

إن العرب قد أعطوا للهند في القرون الوسطى كثيرا من المعلومات الفنية التي ازدهرت في بغداد وغيرها من مراكز العلوم العربية ، إبان العصر العباسي ، وكان أثر العرب عميقا في فن العمارة والفنون الجميلة والتجارة والملاحة والفنون الصناعية سيما صناعة الزجاج والجلد وبعض الصناعات الكيماوية ، والفنون العسكرية ، وأدخل العرب طرقا لم تكن معروفة من قبل في هذه الفنون والعلوم ، وقد انتقلت إلى الهند عن طريق الترجمات من العربية إلى الهندية ، وكذلك بواسطة الفرس والترك والمغول الذين جاءوا بها إلى الهند بعد أن اتبعوا الأنظمة العربية في هذه العلوم والمعارف.

وجدير بالذكر ، الخدمة العظيمة التي أسداها العالم الكبير أبو الريحان البيروني الذي عاش في الهند حوالى ثلاثين سنة وتعلم خلالها اللغة السنسكريتية ، وطالع المؤلفات الهندية في مختلف العلوم والفنون ، حتى استطاع أن يترجم أحسن المؤلفات العلمية من السنسكريتية إلى العربية ، كما نقل علوم العرب إلى السنسكريتية ، وقد نشطت عملية الترجمة من كلا الطرفين في عصر الحكم العباسي الزاهر .

ما قدمته الهند للعرب

أبدى العرب اهتماما بالغا بالهند وعلمائها وحكمائها ، كما كانت محصولاتها ومنتجاتها الزراعية محل إعجابهم وتقديرهم منذ القدم ، وأصبحوا يعنون كل العناية بشؤون الهند بعد ظهور الإسلام وتوثق العلاقات التجارية والعلمية بين الأمتين ، وفي العصور الأولى للإسلام أقام العرب دولة متسعة الأرجاء تتاخم حدودها أراضي شبه القارة الهندية ، وزار الكثير من العرب النابهين ، كم الرحالة ولمؤرخين والكتاب والفلاسفة ، الهند وكتبوا عنها وترجموا من مؤلفاتها وناقشوا علماءها ، ومن الذين كتبوا كثيرا عن الهند ، تفصيلا وبيانا ، التاجر سليمان ، والمسعودي ، وابن بطوطة ، وأبو الريحان البيروني ، وابن حوقل وغيرهم ، فانتقل الجزء الأكبر من معارف الهند القيمة في الحكمة والفلسفة والطب والحساب والفلك ، إلى العرب عن طريق ترجمة الكتب السنسكريتية إلى العربية .

علوم الحساب الهندية

ومما قدمته الهند للعرب من علوم الحساب نظام الأرقام وكذلك الصفر ، وقد ترجم الفيزاري كتاب الفلك الهندي المسمى “براهما سدهانتا” ثم ألف كتابا جديدا في هذا الموضوع في ضوء المعلومات التي استمدها من الكتاب الهندي ، ويقال بأن الفضل يرجع إليه في تعريف العالم العربي بالأرقام ، كما أضفى الخوارزمي عليها شكلها وصورتها ، وقد ألف على بن أحمد النسائي كتابا في الحساب الهندي .

الطب الهندي القديم

يعرف الطب الهندي القديم باسم “أيورفيدا” وهو أقرب إلى النظريات العلاجية لابقراط وجالينوس ، ومن أشهر كتب الطب الهندي المترجم إلى العربية كتاب “سدهستان” وكذلك “ساسرود” كما أنه توجد في كتب ابن سينا والرازي أشارت كثيرة إلى أسماء الأمراض الهندية ونظام العلاج الهندي القديم .

الفلسفة الهندية

كان العرب دائما مولعين بحكم الهند وفلسفاتها وأساطيرها ، ومن المؤلفات الهندية الفلسفية التي ترجمت إلى العربية “بانشاتانترا” المعروف “بكليلة ودمنة” لابن المقفع وبعض الكتب البوذية المعروفة ، ولم يلبث أن ترك نفوذ هذه الترجمات أثرا في أفكار بعض الفلاسفة العرب وكتاب الأدب العربي ، وقد استمر نشاط الترجمة من السنسكريتية إلى العربية وبالعكس من زمن المنصور إلى زمن المأمون ، من الخلفاء العباسيين ، ويقال بأن العرب حصلوا في القرن الثامن الميلادي على معظم العلوم والفنون التي ازدهرت في عهدي موريا وجوبتا في الهند منذ ثلاثة قرون سابقة له وكان مجيء أبو الريحان البيروني إلى الهند قد كلل هذه الخدمات الجليلة بنشاطه الواسع .

النظرية الجغرافية الهندية

كان العرب مدينين للإغريق في علم الجغرافي ، كما كانوا مدينين لهم في علم الفلك ، ثم أخذوا علم الجغرافيا الهندي ونظرياته عن طريق ترجمة المؤلفات الهندية في علم الفلك وكان الجغرافيون العرب ملمين بنظرية كروية الأرض ، وأما فكرة قبة الأرض فترجع إلى أصل هندي ، وبعد نقل كتاب “السندهانتا” الهندي في علم الفلك إلى اللغة العربية بدأت دراسة العرب دراسة علمية للفلك وأقاموا جداولها الفلكية المعروفة لدى الهند والإغريق ، وكان البيروني في تلك الفترة أكثر العلماء تأليفا وترجمة في موضوعات علم الفلك ، وعرب كثيرا من المصطلحات السنسكريتية في الفلك والجغرافيا حتى أصبحت الآن جزءا لا يتجزأ من المصطلحات العربية .

بين الماضي والحاضر

ظلت العلاقات بين العرب والهند دائما علاقات ود وسلام ، وعلم وأدب وحضارة وثقافة ، فإذا كان العرب دخلوا الهند تجارا ودعاة وزائرين ، محبوبين لدى أهلها ، كان الهنود دائما موضع تقدير ونظرة احترام لدى العرب ، وكل مدين للآخر بطريقة أو أخرى ، وبعد التحرر من السيطرة الأجنبية ، بدأ عصر جديد في الأمتين يبشر بمستقبل زاهر ميمون .