تستقيم الحضارة بالتمسك بالأصالة

الخليج اليوم – قضايا إسلامية – الاثنين 30-ديسمبر-1985 م

من الحقائق الثابتة عقليا وتاريخيا أنه لن تكون لأمة من الأمم حضارة تاريخية أو قيمة حقيقية إلا إذا كانت لها مميزاتها الخاصة وقيمها الواضحة التي تقوم على أساسها دعائم حضارتها المميزة وكيانها الخاص . وهذه القاعدة الطبيعية تنطبق على الأفراد والجماعات أيضا ، فلن يكون للفرد مجد أو ذكر وقيمة في المجتمع إلا إذا كان له في محيط عمله أو وظيفته ومهنته وبين أفراد طائفته طابع مميز وقيم نبيلة يمتاز بها عن أمثاله . وبالقياس نفسه تقاس أمة من الأمم في أي زمان ومكان فإذا مل يكن لها طابعها المميز في جوانب حضارتها بصفة عامة فلن يكون لها كيان مستقل أو مجد حضاري خاص يسجل في صفحات التاريخ ضمن الأمم ذات حضارات مميزة في تاريخ الإنسانية الحضارية .

دور الدين في بناء الحضارة الإسلامية

إن الحضارة التي يهدف إلى بنائها النظام الإسلامي من حضارة متكاملة وشاملة لشتى مرافق الحياة البشرية . لأن الحضارة مدارها الإنسان الذي خلق من أجله الكون كله وسخرت له السماوات والأرض والشمس والقمر والبحار والجبال وغيرها من الكائنات المحسوسة وغير المحسوسة . وأما الإنسان بفطرته وطبيعته الحقيقية فمكون من الروح والمادة ومطالبه في الحياة الدنيا لن تستكمل إلا بتحقيق المطالب الروحية والبدنية ، وأن الحضارة الإنسانية السليمة يجب أن تقوم على أساس على أساس تحقيق هذه المطالب المتكاملة فلن تكون إنسانية كاملة فلا يمكن الإطلاق عليها كلمة “الحضارة الإنسانية” إلا إذا لم تكن توفي بجميع نواحي الضروريات والحاجيات والكماليات للإنسان روحيا وماديا ، وحسيا ومعنويا ، وإيمانا وعملا ، وفرديا واجتماعيا ، ومحليا وعالميا ، ودنيويا وأخرويا .

وأما التقدم الذي يحصل حينا فآخر في مجال علمي أو اقتصادي أو صناعي في مكان أو زاوية على وجه الأرض ثم يبطل عليه بكلمات فارغة ورنانة مثل :التقدم اللحضاري والمدنية العالمية ، والنهضة التقنية وأخيرا حضارة عصرية وما إلى ذلك من الأوهام والخرافات التي تضلل العوام وتذر الرماد في أعين العباد .

كيف تؤدي الحضارة إلى التدمير والأغلال ؟

وإذا كانت الزوابع في الفنجان حضارة حقيقية نافعة وصالحة فكيف تؤدي إلى أنواع من التدمير والتخريب والإفساد الخلقي والاجتماعي والمادي والمنوي ، وكيف تنتشر تحت ظلها ولوائها الحروب والكروب ، ويتقاتل الأخوة بعضها بعضا ، وتخرب البيوت بأيدي أصحابها ومن العجب العجاب أن كل هذا يحدث باسم التقدم وبأيدي التقديميين المزعومين ، وتحت مرأى ومسمع زعماء الحضارة العصرية ، وبتشجيع منهم بل بتخطيطهم المنظم المدروس . وأية حضارة هذه يا ترى ؟ !

وأدهى وأمر من هذه الأضحوكات كلها أن أصحاب هذه الحضارة المزيفة يقلبون الأمور على عقب ويشوهون الحقائق على العلن ويخرفون الأضاليل والأكاذيب عمدا أو جهلا لتحقيق مآربهم الشخصية التافهة ، وفي مقدمة هذه الأراجيف العصرية إبعاد القيم الروحية والأخلاقية من مقومات ومكونات الحضارة العصرية .

ومن هنا صارت معالم هذه الحضارة المخاوف ، والمخاطر والمهالك ، والمساوئ الخلقية والهجمية ، ولهذه الحقائق الثابتة الفطرية السليمة وضع الإسلام قواعد حضارية على الأخلاق الفاضلة من العدل والمساواة والتسامح ، والإحسان والنصيحة والمساعدة لكل مخلوق في هذه الكون بصدق وإخلاص وحسن نية وعلى أن يكون الهدف المنشود من بناء هذه الحضارة الإنسانية المتكاملة في المجالات الدينية والعلمية والاقتصادية والسياسية وغيرها ، تحقيق مرضات خالق الكائنات ومالكها وتحقيق السعادة في الدارين للإنسانية كلها ، ودفع المضار عن كل مخلوق في الكون ، وجلب المنافع له ، وهكذا كان ميزان الحضارات لأسلاف مسلمي اليوم فبنوا الأمجاد وكانوا خير أمة أخرجت للناس ، ونشروا العلوم والمعارف والخبرات في العالم ، وقامت على موائد حضاراتهم ، وحضارات الغرب والشرق ، وما كانت تلك الحضارات التي قامت على المبادئ الإسلامية الحقة ، حضارات هدم وتخريب أو تخريف ، كما هو حال الحضارات المعاصرة . ولا تنقصها المعارف والوسائل والفنون والآداب والمصانع والمعامل ، ولكن تنقصها البصيرة والأصالة ومصابيح القيم والمبادئ . فلا ينهض للأمة الإسلامية حضارة ومدنية إلا بالعودة إلى تلك الأصالة ، لا بالتهافت على هذه الزوبعة الزائلة .