المبادئ القرآنية لبناء الأمة المثالية-4

الخليج اليوم – قضايا إسلامية الاثنين 6-أبريل -1987 م

عرفنا من خلال التطواف الذي قمنا به في الحلقات السابقة ، مدى صدى الصيحة الأولى صوت القرآن لبناء أمة إنسانية قائمة على العلم والإيمان في أول وحي نزل على خاتم الأنبياء والرسل من رب العالمين إذ قال :”اقرأ باسم ربك الذي خلق” ثم بين كمال كرم الخالق عز وجل على عباده بأنه منحه نور العلم فقال :”ربك الأكرم الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم” وهكذا كانت اللبنة الأولى لبناء صرح الأمة المثالية التكوين العلمي المقرون بالإيمان الفطري ، وأما المرحلة الأولى لبناء الأمة المثالية فإنما هي نقل أفراد الأمة المعنية من غياهب الجهل والتقليد الأعمى والانبهار بسفاسف الحياة الدنيا والتهافت على بعض مظاهر الترف المادي البهيمي ، إلى نور العلم والفهم والوعي والاعتناء بالأمور الجادة والأعمال الباقية النافعة للمجتمع الإنساني كله فقدم القرآن أساسا ثابتة لبناء أمة متحضرة مثقفة سامية ونبيلة .

وقبل أن نقوم باستعراض عام ، لهذه الأسس القرآنية ، لبناء الأمة المثالية يجب علينا الانتباه جيدا غلى الخطر الحضاري الثقافي المحدق بالعالم الإسلامي من إسرائيل بصفة كونها دولة عنصرية ذات أهداف دينية وحضارية أكثر من الأهداف السياسية والاقتصادية ، وإلى بعض أضاليل الصهيونية المدبرة لتزييف تاريخ الدور الحضاري للأمة الإسلامية ، وذلك بغية تسميم عقول البشر وتشويه الحقائق أمام الرأي العام الإنساني ولتحقيق مآربها الذميمة ، وهذا الوضع يتطلب من كل مسلم ومن كل إنسان منصف أن يعود بذهنه إلى فضل الأمة الإسلامية على الحضارة الإنسانية العامة وتأثيرها في بناء الحضارة الأوروبية الحديثة ، وقلنا أن الصيحة الأولى من صوت القرآن قد وضعت الحجر الأساسي لبناء التكون العلمي والحضاري والفكري للأمة الإسلامية ، حتى قدمت للعالم حضارة إنسانية سامية وشاملة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الحضارات .

والآن نقوم بتطواف شريع حول بعض الميزات المبدئية والفكرية والإنسانية التي تمتاز بها الحضارة التي قدمتها الأمة الإسلامية للعالم ، عن الحضارات الأخرى ، قديمها وحديثها ، ونقوم بهذه المقارنة من صميم المبادئ الإسلامية الأساسية ، ومن واقع التاريخ حتى لا يكون هناك مجال للإنكار أو التشكيك إلا لجاهل أو مكابر عنيد ، والمبدأ الأول للحضارة الإسلامية تعميم العلوم والمعارف وإزالة التفرقة الطبقية والعنصرية بين البشر ، وقامت هذه الحضارة على النزعة الإنسانية الخالصة التي لا تفرق بين الناس ، وقد استمد المسلمون دستور حضارتهم من الإعلان القرآني .

“يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير” .

وحين تطلع العربي المسلم بنظرة ، ملتزما بدينه ودستوره إلى ما وراء أفق الصحراء العربية ، بل حين توطدت أقدامه في أنحاء لم يكن يحلم بارتيادها ، حينئذ أيقن أنه ليس فاتحا ولا غازيا ، وإنما هو داع ومبشر لعهد جديد ، فأكد في كل بقعة وضع فيها قدمه ووصل إليها صوته ، احترام الإسلام للقيم الإنسانية وحرصه على الكرامة وإزالة الفوارق بين الطبقات وإلغاء النظام الجامد الذي قدم أبناء المجتمع الإنساني إلى طبقات عنصرية على أساس التفرقة الجنسية أو اللونية أو تالم1هبية ، ووضع القاعدة السليمة لخلق حضارة لا تفاضل فيها لبعض على بعض إلا من حيث المقدرة العقلية والمواهب الشخصية ، وقضى على النظرية القديمة التي عبر أرسطو نفسه عنها حيث قال ما معناه : إن العبد شيء من المتاع ويشبه أثاث المنزل ، غير أن الحضارة الإسلامية أزالت هذا الحاجز العالي الذي فرق بين البشر إلى سادة وعبيد ، واعتبرت الناس جميعا متساويين كأسنان المشط .

(يتبع)