الدنيا دار العمل والآخرة دار الجزاء

الخليج اليوم – قضايا إسلامية – الاثنين 30-يونيو-1986 م

إن هذه الحياة الدنيا في نظر الإسلام الذي هو دين الواقع والفطرة ما هي إلا دار عمل ومحنة وسعي وأما الحياة الآخرة فهي دار حساب وجزاء ، وأن الله سبحانه وتعالى لن يترك الإنسان لأحلام اليقظة تلعب بعقله وتعبث بفؤاده وتتصرف في خياله كما شاء بل أقام له من عالم الإدراك أدلة ساطعة عديدة على أن هذه الحياة وشيكة الزوال ، سريعة الانتهاء ، مطلية بالغرور ، مملوءة بالمحن ، وذلك لئلا يصب كل همومه وأفكاره على الترامي على أعتابها ، والتعلق بأذيالها ، والتهافت على متعها وشهواتها والتفاني في كسب حطامها الفاني .

وأن هذا القدر من الإدراك والفهم لا يتطلب من الإنسان العاقل إلا قليلا من التدبر في مجريات الأمور حواليه ليلا ونهارا ، وإذا أخلد الإنسان إلى خلوته وانقطع إلى رؤيته لم يلبث هذا الاتعاظ أن يتبخر في رأسه ويرجع عن غيه ويمسك بزمام الأمور بيده من أجل الوصول إلى الغاية القصوى النبيلة من هذه الحياة ، على هدى ونور وبصيرة لئلا يضل ولا يشقى في حياته الأخرى .

الغاية من هذه الحياة

إن رسالة كل إنسان في نظر الإسلام إنما هي أن يعمل صالحا كما أرشده خالقه على أن تعود فائدته على الإنسان وعلى الناس أجمعين ، وإلى هذه الغاية يشير القرآن الكريم : “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون” وأن العبادة المطلوبة هي إطاعة الله تعالى في جميع لحظات حياته حسب النظام الإلهي الذي وضعه لصالح العالمين لأنه رب العالمين ، ولا تكون تلك العبادة أو تلك الطاعة محققه لغاية الخلق إلا بالاستسلام المطلق للخالق الباري والإذعان لأوامره والامتناع عن نواهيه وهذا هو عين العمل الصالح ، وقال تعالى أيضا موضحا الغاية من هذه الحياة الدنيا والانتقال منها بعد فترة إلى الحياة الأخرى حسب إرادته المطلقة ومشيئته الخالدة : “تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيئ قدير ، خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا” .

وقد وصف القرآن الكريم في آية أخرى الحياة الدنيا وطبيعتها وصفا دقيقا ليس في استطاعة أي بليغ ماهر أو كاتب ملهم أو مصور مبدع ، مهما أوتي من قوة الإجادة ودقة التعبير ، أن يحيط بوصف حقيقة الحياة الدنيا بأدق من هذه الآية القرآنية الكريمة إذ قال : “واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيئ مقتدرا ، المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخيرا أملا” (الكهف : 45) .

فإن الآية لا تكفي بذكر الماء يخالط الأرض فيوقظ فيها النبت إلى النماء والخضرة والازدهار والإنماء والقطاف والحصاد ، دون أن تسير إلى غرورها الخلاب وسرابها البراق ، وفي النهاية إسدال الستار على مصير محتوم وزوال لازم لكل شيئ في هذا الكون ، وقال الشاعر الحكيم في معرض الإشارة إلى حقيقة هذه الحياة الدنيا :

ألا إنما الدنيا كأحلام نائم وما خير عيش لا يكون بدائم

تنازع البقاء

من الحقائق الثابتة أن الله سبحانه وتعالى قد أودع في الإنسان طبائع وغرائز تحمله على تنازع البقاء وحب التملك والحرية والسيادة ، ولكن يجب أنت يستخدم الإنسان هذه الطبائع وتلك الغرائز والملكات كلها لتحصيل المثل العليا وتحقيق الخير العام للإنسانية كلها بحيث لا يعيش الفرد لذاته فقط ولا يستذل فرد آخر لنفسه ، وبعبارة أدق أن كل إنسان في نظر الإسلام ، يجب أن يعمل للصالح الذي تعود فائدته عليه وعلى الناس في حدود العمران والحضارة والتقدم والرخاء وعليه أيضا أن يكبح ما عساه أن يكون من طغيان الغرائز وطيش المطامع في سبيل تنازع البقاء وتحقيق الذات ، وتحصيل الخير وكسب النجاح لنفسه ، لأن نفسه ، لأن نفسه ليست خارجة عن دائرة المصلحة العامة لكافة البشرية التي هو جزء منها ، وأما الانحراف عن هذه القاعدة الإنسانية الفطرية والافتتان بزخارف الدنيا والانخداع بالتصاريح والتدافع في سبيل الحطام البراق فيؤدي دائما إلى الدمار والهلاك في العالم .