الحضارة بناء وتعمير وليست بفساد وتدمير

الخليج اليوم – قضايا إسلامية الثلاثاء 12-أغسطس-1986 م

إذا كانت هذه الزوابع في الفنجان حضارة حقيقية نافعة وصالحة فكيف تؤدي إلى أنواع من التدمير والتخريب والإفساد الخلقي والاجتماعي والمادي والمعنوي ؟ وكيف تنتشر تحت ظلها ولوائها الحروب ولكروب ؟ ويتقاتل الأخوة بعضهم بعضا ؟ .

وتخرب البيوت بأيدي أصحابها ؟ ومن العجب العجاب أن كل هذا يحدث باسم التقدم وبأيدي التقديميين المزعومين ، وتحت مرأى ومسمع زعماء الحضارة العصرية ، وبتشجيع منهم بل بتخطيطهم المنظم المدروس ، وأية حضارة هذه يا ترى ؟ !

وأدهى وأمر من هذه الأضحوكات كلها أن أصحاب هذه الحضارة المزيفة بقلبون الأمور على عقب ويشوهون الحقائق على العلن ويخرفون الأضاليل والأكاذيب عمدا أو جهلا لتحقيق مآربهم الشخصية التافهة ، وفي مقدمة هذه الآراجيف العصرية إبعاد القيم الروحية والأخلاقية من مقومات ومكونات الحضارة العصرية .

ومن هنا صارت معالم هذه الحضارة المخاوف ، والمخاطر والمهالك والمساوئ الخلقية والهجمية ، ولهذه الحقائق الثابتة الفطرية السليمة وضع الإسلام قواعد حضارية على الأخلاق الفاضلة من العدل والمساواة والتسامح ، والإحسان والنصيحة والمساعدة لكل مخلوق في هذا الكون بصدق وإخلاص وحسن نية وعلى أن يكون الهدف المنشود من بناء هذه الحضارة الإنسانية المتكاملة ، في المجالات الدينية والعلمية والاقتصادية والسياسية وغيرها ،لتحقيق مرضاة خالق الكائنات ومالكها ، ولتحقيق السعادة في الدارين للإنسانية كلها ، ودفع المضار عن كل مخلوق في السعادة في الكون وجلب المنافع له ، وهكذا كان ميزان الحضارات لأسلاف مسلمي اليوم فبنوا الأمجاد وكانوا خير أمة أخرجت للناس ، ونشروا العلوم والمعارف والخبرات في العالم ، وقامت على موائد حضاراتهم ، حضارات الغرب والشرق وما كانت تلك الحضارات التي قامت على المبادئ الإسلامية الحقة ، حضارات هدم أو تخريب أو تخريف ، كما هو حال الحضارات المعاصرة ، ولا تنقصها المعارف والوسائل والفنون والآداب والمصانع والمعامل ، ولكن تنقصها البصيرة والأصالة ومصابيح القيم والمبادئ .

فلا ينهض للأمة الإسلامية حضارة ومدنية إلا بالعودة إلى تلك الأصالة ، لا بالتهافت على هذه الزوبعة الزائلة .

دور الدين في الحضارة الإسلامية

من الحقائق الثابتة عقليا وتاريخيا أنه لن تكون لأمة من الأمم حضارة تاريخية أو قيمة حقيقية إلا إذا كانت لها مميزاتها الخاصة وقيمتها الواضحة التي تقوم على أساسها دعائم حضارتها المميزة وكيانها الخاص ، وهذه القاعدة الطبيعية تنطبق على الأفراد والجماعات أيضا ، فلن يكون للفرد مجد أو ذكر وقيمة في المجتمع إلا إذا كان له في محيط عمله أو وظيفته ومهنته وبين أفراد طائفته طابع مميز وقيم نبيلة يمتاز بها عن أمثاله ، وبالقياس نفسه تقاس أمة من الأمم ، في أي زمان ومكان فإذا لم يكن لها طابعها المميز في جوانب حضارتها بصفة عامة فلن يكون لها كيان مستقل أو مجد حضاري خاص يسجل في صفحات التاريخ ضمن الأمم ذات حضارات مميزة في تاريخ الإنسانية .

إن الحضارة التي يهدف إلى بنائها النظام الإسلامي إنما هي حضارة متكاملة وشاملة لشتى مرافق الحياة البشرية ، لأن الحضارة مدارها الإنسان الذي خلق من أجله الكون كله وسخرت له السماوات والأرض ، والشمس والقمر والبحار والجبال وغيرها من الكائنات المحسوسة وغيرر المحسوسة .

وأما الإنسان بفطرته وطبيعته الحقيقية فمكون من الروح والمادة ومطالبه في الحياة الدنيا لن تستكمل إلا بتحقيق المطالب الروحية والبدنية .
وأن الحضارة الإنسانية السليمة يجب أن تقوم على أساس تحقيق هذه المطالب المتكاملة فلن تكون إنسانية كاملة ولا يمكن أن يطلق عليها كلمة “الحضارة الإنسانية” إلا إذا لم تكن توفي بجميع نواحي الضرورات والحاجات والكماليات للإنسان روحيا وماديا ، وحسيا ومعنويا ، وإيمانا وعملا وفرديا واجتماعيا ، ومحليا وعالميا ودنيويا وأخرويا

.
وأما التقدم الذي يحصل حينا فآخر ، في مجال علمي أو اقتصادي أو صناعي في مكان أو زاوية عل وجه الأرض ثم يطبل عليه بكلمات فارغة ورنانة ، مثل : “التقدم الحضاري” و “المدنية العالمية” و ” النهضة التقنية” و أخيرا ” حضارة عصرية” وما إلى ذلك فهو من الأوهام والخرافات التي تضلل العوام وتذر الرماد في أعين العباد وتفسد البلاد .