الثقافة بالأخلاق لا بالألقاب والأنماق

الخليج اليوم – قضايا إسلامية الأحد 16-نوفمبر -1986 م

إن التاريخ لشاهد على أن العصور المتأخرة من تطورات الأحداث ، وتقلبات الأمور وتغيرات الأشياء ، قد اتسمت بصبغة تعكيس الحقائق وتقليب الوقائع ، وبعبارة أخرى تشويه المفاهيم وتصوير الأشياء على غير طبيعتها الأصلية وهكذا قد شاعت الأغاليط والأضاليل والمداهنات والمنافقات في المعاملات والمناظرات والمقالات في شتى مجالات الحياة حتى صارت الأمور منظورة على غير حقائقها الذاتية وصارت المصطلحات الفكرية والمذهبية والعلمية تقدم وتذاع وتكتب على غير أوضاعها الأصلية ، واختلطت الأباطيل والأقاويل مع الحقائق والثوابت بل صار الحق أحيانا يبدو في ثواب الباطل ، والباطل في ثوب الحق ، وقد زاد الطين بلة تغضى العلماء والمسئولين عن الزلات من بدايتها ، وتجاهلهم لخطورة استفحال انعكاسات هذه التعكسيات بمرور العصور ، ولمغبة انطباع أذهان الأجيال بمقلوبات المفاهيم أو المفاهم المقلوبة فتصبح النتائج وخيمة والعوقب ذميمة ويجني الناس الأبرياء الثمار المرة من تلك الأشجار النابتة في أرض مصطنعة منمقة مملحة !

ومن هذه التشويهات والتقليبات العصرية تلك المصطلحات الوهمية كأن نطلق أسماء “التقدم” على “الانحلال” الخلقي والانطلاق الحيواني و”الحضارة” على “الهمجية” والبربرية من التخريب والتدمير ، و”الاستعمار” أو “التعمير” على الاستذلال والاستغلال وامتصاص دماء الشعوب ، و”الثقافة” على المظاهر المنمقة من الملابس اللامعة والكلمات البراقة المنبثقة من النفاق والضحك على عقول الناس ، وكذلك تطلق ألقاب “المثقف” على من يحمل شهادة علمية أو فنية من أي مكان وبأية طريقة أو وسيلة وإن كان لا يعرف أسلوب الكلام مع الناس بأبجدية الأخلاق الإنسانية والمعاملات الطيبة أو لقب “جنتلمان” على كل من يلبس البدلة والكرافتة وربما يصطنع ابتسامات نابعة من أسارير الوجه لا من معاني المودة أو الفطرة الإنسانية ، ومن الأدهى والأمر أن تنقلب الأمور إلى وضع أخطر حتى صارت شعارات الحضارة ، والمباني العالية والعمارات الرائعة والشوارع الواسعة وإن كان أصحابها ذوي عقول فارغة ونفوس تافهة وعادات وأخلاق سخيفة تزكم الأنوف ، ومعاملات جافة تهزم الحيوانات المفترسة وأساليب حياة تضحك الأمم الواعية .

وأما الثقافة الحقيقية التي تقتضيها الفطرة الإنسانية ويعلمها منقذو البشرية وتدعو إليها الكتب السماوية فهي الأخلاق الإنسانية النبيلة الفاضلة تنبع من الإخلاص وصدق النية والنظرة الإنسانية ، وأن المثقف فهو الذي يعرف كيفية المعاملة مع الناس بطريقة إنسانية عادلة لا بغطرسة حمقاء ولا بهمجية عجماء ولا بمنافقة جرداء وهذا هو الدين الذي أتى به جميع الأنبياء والمرسلين إذ أعلن خاتم النبيين :” الدين العاملة” ، وهذه هي الثقافة الحقيقية الأصلية التي يعنيها الإسلام ، وتلخص ملامح الثقافة الصحيحة أو مظاهر حياة الرجل المثقف الصحيح ، في مفهوم الإسلام في أربعة أمور : أولا – اقتران العلم بالعمل الصالح ، وثانيا – السلوك الإنساني مع الناس ، وثالثا – الابتعاد عن التعصب بكل أنواعه ، ورابعا – حسن الكلام بعيدا عن التكبر والترفع والتشدد والتشدق ، وقد أرشد سبحانه وتعالى الإنسانية كلها محذرا ومنذرا ، إلى أن مدار التقدم الثقافي والحضاري بتغيير النفوس وما فيها من الجنائب والمفاسد لا بتغيير الألقاب ، وبتحسين الأخلاق ، لا بحمل الشهادات الرسمية ، ولا بالمظاهر الشكلية : “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” (الرعد : 11) .

وينبغي أن يكون من المعلوم والمفهوم ، بكل وعي وإدراك ، لكل شخص أو شعب أو أمة ، أن الثقافة الحقيقية والمعاملات السيئة أمران متناقضان تناقضا مبينا وأن الشهادة العلمية أو الألقاب والمناصب العالية لا تكسب لأي شخص مهما كان شأنه لقب ” المثقف” حقا واستحقاقا .

قبسات مضيئة

من القرآن الكريم

“ولو كنت فظا غليظ القلب لاانفضوا من حولك” (آل عمران : 159) .

من الهدي النبوي

“والكلمة الطيبة صدقة” (متفق عليه) .

من الأدعية المأثورة

“اللهم ألهمني رشدي وأعذني من شر نفسي” (رواه الترمذي) .