الإسلام يحقق الكمال البشري باستيعاب قضايا الزمن

الخليج اليوم – قضايا إسلامية الخميس 17-أبريل-1986 م

إن الإسلام دين الفطرة ومنهج العمل ونظام الحياة والعمران حسب شريعة خالق هذا الكون ، وبذلك تسير الحياة فيه سيرة مؤمنة لا تنفصل عن خالقها فتنحرف وتضل وتضيع ، وأن القرآن يدعو الناس إلى حياة راقية نظيفة ساعية إلى الخير وزاخرة بالبر والإحسان وقائمة على التقوى والعمل الصالح ، وبهذا النهج السليم تتحقق العبودية المطلقة لله الواحد القهار ، وتنظم الحياة على الأرض وتتفاعل مع نواميس الطبيعة ومقتضيات الحياة البشرية ، ويسود الأمن والسلام والوئام بين الأنام .

وإلى هذه الغاية القصوى من هذا المنهج الرباني يشير دستور هذا المنهج ألا هو القرآن الكريم :”يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم” (الأنفال : 24) ، وأن القرآن قد أكد وأوضح بهذا النص الصريح بأنه يقدم منهجا قويما لحياة كريمة ورشيدة وقوية تتعامل مع الكون وفق قوانين الله تعالى ، تأخذ منه وتعطي له وتتأثر به وتؤثر فيه وتفرج الطاقات المدفونة وتبعث الهمم المركونة وتلهب العزائم الخامدة وتذيب القوى الجامدة ، فلا ترضى هذه الحياة القرآنية (أو الإسلامية) بالفساد يعج في المجتمع وبالمنكر ينتشر فيه وبالانطواء أو الانهزام لأنها حياة حركة وحيوية ونشاط وعمل إنها ليست حياة شعائر تقام ، وطقوس تؤدي في رتابة هزيلة وحركة ضئيلة ، ولكنها حياة عمل هادف ودائب فقال رب دستور هذه الحركة :”وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون” (التوبة : 105) .

القيم متمثلة في العمل

من المعلوم لدى كل باحث ودارس للرسالات السماوية والحضارات العالمية والمبادئ الإنسانية العامة التي تسير عليها طبيعة الحياة البشرية أن لكل حضارة قيم وأن ارتقاء حضارة من حضارات الدنيا معناه أن لدى أصحابها قيما معينة آمنوا بها وعملوا على تحقيقها ، فتكونت من نتاجها وثمارها حضارة مبنية على تلك القيم ، وأن تعريف حضارة الإسلام لا تخرج عن هذا الحد الذي تقدم فهي حضارة أخلاقية تجمع بين الفكر والعمل وأن قيم الإسلام هي الدافعة إلى التقدم الحضاري المتكامل لجميع عناصر الفطرة الإنسانية لأن فطرة الإنسان تجمع بين المادة والروح وأن المجتمع المتكامل – في نظر الإسلام – هو المجتمع الذي لا يهمل أي شيء من الجوانب المادية أو الروحية معا ولهذا كانت الأمة الإسلامية المتمسكة بهذه الحضارة القائمة على القيم المتكاملة من الروحية والمادية “أمة وسطا” وبهذه الوسطية قد أصبحت “خيرأمة أخرجت للناس” .

وأن قيم الإسلام الدافعة إلى التقدم الحضاري المتكامل ليست معاني مجردة مستقلة بذاتها عن العمل ، كما يدعي بعض الافلاطونيين الذين كانوا يقدسون الفكر وترفعه فوق العمل ، وإنما هي قيم ذات فعالية إيجابية في واقع المجتمع ويمكن أن يقاس مدى فاعليتها وإيجابيتها قوة وضعفا بالنظر إلى سلوك الأفراد الذين يعتنقونها ، فليس في المنهج الإسلامي المصطلح الحديث المحرف الذي يقسم القيم بالنوعين المنفصلين ويعطي لكل منهما شخصية مستقلة ومكانة منفصلة عن الآخر ، ويقول ذلك المصطلح “قيما ذاتية” أي أن تلك المعاني هي القيم في ذواتها ، كما يقول عن المعاني المتمثلة في السلوك العملي “قيما خارجية” .

وأن هذا الاصطلاح لا يقره المنهج الإسلامي الذي يدعو إلى حضارة تشمل كافة جوانب النشاط الروحي والمادي ، مكملا للفرد ، ومكملا للجماعة ، وملائما بينهما وبين متطلبات العصر الذي يعيش فيه ، وأن القيم إذن متمثلة في العمل والسلوك ، وبدون العمل لا تكون هناك قيم ذاتية قائمة في أذهان الناس وما هذا الادعاء إلا سفسطة وخرافة ومحاولة جاهلة أو ماكرة لتجريد الأفراد والجماعات من مقومات الحياة البناءة ومن مكونات الحياة الخلافة ، وقد وضع القرآن تعريفا واضحا للقيم المتوازنة المتمثلة في خير الحوافز المادية والحوافز الروحية فقال :”وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا” (القصص : 77) ، وقد ورد في أثر حكيم :”اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غذا ” وبصرف النظر عن مصدرية هذا الأثر وحجيته الدراسية فإنه قد صور فعالية عمل الإنسان في التطور الحضاري للعالم بأسره وإيجابية العمل في تخليد ذكرى صاحبه إن عاجلا أو آجلا .

الإسلام دين الحركة وليس دين الرهبنة

وأما الإسلام فقد نبه أتباعه بنداءات صريحة ومدوية إلى أن منهجه في الحياة حركة دائبة وتبصرة كاشفة ، ودعاهم إلى حركة التفكير وحركة التدبير وحركة التنفيذ ، وإلى هذه الحركات الثلاث يشير القرآن الكريم :”أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها ومالها من فروج ، والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج ، تبصرة وذكرى لكل عبد منيب” ( ق : 6-8) ثم قال :”فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون” (الجمعة : 10) وقال أيضا :”وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما ، درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما” (النساء : 96) .

وقد عرف المسلمون النابهون الذين صفت نفوسهم واستقامت فطرتهم وتفاعلت أفهامهم مع التعاليم الإسلامية الحقة ، حقائق الإسلام وطافوا بعقولهم أرجاء السماوات والأرض ، في رحلة كاشفة وساحوا فيها دعاة وهداة يعلمون الناس منهج الإسلام في حياة الأفراد والجماعات وفتحوا بالقدرة الحسنة الذي وحد الأمم المتفرقة والقبائل المتشتتة تحت شعار الأخوة الإنسانية أولا وبالتالي تحت مظلة الأخوة الإيمانية كما وصف الله سبحانه وتعالى هاتين المرحلتين المتلازمتين للوحدة الإنسانية حيث قال :”يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا” (الحجرات : 13) ثم قال :”إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم” (الحجرات : 10) .

وكانوا يعملون كل خير ويعبدون الله تعالى بتدبير وخشوع ، ويطلبون العلم من المهد إلى اللحد ولا يستكبرون فيه أبدا ولا يخافون في الحق لومة لائم ، وأصلحوا بين الناس وبذلوا الرحمة للإنسان والحيوان واتخذوا الإيثار شعارا ومن المحبة دثارا ، وفوق هذا كله ما كانوا يعرفون ولا يعترفون بالحزبية والطائفية ولا بالعنصرية والإقليمية وابتعدوا عن نعرات الألوان واللغات والجنسيات ، وقد فهموا أن هذا الاختلاف من أكبر الأدلة على قدرة الله تعالى وحكمته في خلقه وما هو إلا وسيلة للاتفاق لا للاختلاف لأنه يحمي الإنسان من الغفلة عن دب الكائنات والعالمين ويذكرهم بعظمته وجلاله ، وبقدرته على الخلق والبعث والحساب وهو فعال لما يريد ، وكانوا يذكرون دائما قوله عز وجل :”ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين” (الروم : 22) .

ذلك هو الإسلام الذي هو دين علم وعمل ، ودنيا وآخرة ، وحضارة وثقافة وعبادة وجهاد وعزة وكرامة وتواضع وخشوع وعدالة ونزاهة ، ونظافة ورعاية لجميع شؤون الحياة بنظام واتزان والتزام ، لا إفراط في شيء ولا تفريط ، ومع الوسطية والاعتدال والانتظام في حركات الحياة وسكناتها حتى تكون الحياة الفردية والجماعية هادئة وراقية ونبيلة ومثالية بكل معانيها .

دور الإسلام في إثراء الحضارات

لا يماري أحد من الباحثين والدارسين لتاريخ الحضارات في الدنيا قديما وحديثا في الدور الذي قامت به حضارة الإسلام في تاريخ البشرية وإثراء حضاراتها ومدنياتها ، فالحضارة الأوروبية التي يشاهدها العالم الحاضر مدينة للحضارة الإسلامية بالشيء الكثير ولو لم تكن هذه الحضارة لظلت أوروبا غارقة في ظلمات العصر الوسيط ، وأن ظهور الجامعات في أوروبا كان ثمرة من ثمرات الاتصال بالحضارة الإسلامية والأفكار والنظريات التي تكونت في ظل منهج الحياة الذي قدمه دستور الإسلام للبشرية ، وجدير بالذكر هنا أن أحد كبار أساتذة الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط هو “أثيين جيلسون” قد ذكر في كتابه “الفلسفة في العصر الوسيط” أن أوروبا في القرن الثالث عشر الميلادي كانت تتطلع إلى الفكر الإسلامي لتأخذ عند وتستفيد منه وقد قوى في ذلك الوقت الاتصال بين الفكر المسيحي الأوروبي والفكر الإسلامي بشكل ملحوظ ، وكان لما نقل من الكتب العربية إلى اللاتينية أثر كبير في وجود نشاط فكري هائل في أوروبا وظهور الجامعات فيها ، وهذا شاهد واحد من كبار أساتذة الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط فما بال الأدلة والشواهد على الدور الهام الذي لعبته الحضارة الإسلامية في التقدم العلمي والتطور التكنولوجي في العصر الحديث ، بعد موجة ترجمة أمهات الكتب العربية الإسلامية في مختلف العلوم والفنون والمعارف إلى اللغات الأوروبية ثم تقديمها بعد صبغها بصيغة أوروبية إلى الدنيا الحديثة في قالب جديد ، وفي غفلة لا بناء الإسلام وغفوة لعلماء العصر عن حقائق التاريخ وأحداث العصور وألاعيب الحاقدين ومكائد المغرضين المنتمين إلى تيارات عديدة ومذاهب شتى لأسباب معروفة أو مشبوهة !.

ابتلاء الإسلام من أتباعه

وإذا درس إنسان عاقل ومدرك لمجريات الأمور وحقائق التطورات العصرية الأسباب التي أدت إلى كثافة الحجب التي حالت اليوم بين العالم الناهض المتعلم المتحضر وبين فهمه حقيقة الإسلام ورؤيته هذا النور الساطع يتأكد بأن المسئولية الأولى والكبرى تقع على عواتق المنتمين إليه ، فصار البلاء أشد وأنكى كما قال الشاعر الحكيم :

وظلم ذوي القربى أشد مرارة على النفس من وقع الحسام المهندس

ولقد ابتلى الإسلام من أتباعه بجهل عارم بمبادئه وأصوله وقضاياه وقواعده فابتعدوا عن لب الأشياء وتهافتوا على القشور والشكليات ولم يعد في حوزة علمائهم إلا نتف مبعثرة ن المسائل الفقهية لا تشفى غليلا ، وصاروا في منأى عن القضايا الأصيلة المصرية لأمة حية ناهضة ، وكان من الأدهى والأمر أن تشرب إلى صفوف المجتمع الإسلامي بعض أصحاب المذاهب الهدامة والأفكار الخلابة تحت شعارات مختلفة فصوروا أمام أبناء الإسلام مبادئ والغة في الإثم والعدوان وعادات وتقاليد تعج بالفساد وانحلال الأخلاق ، ولما رأى بعض ضعاف النفوس من المنتمين إلى الإسلام ، ومنهم بعض إنصاف العلماء والمتعلمين ، إنهم قد اختاروا العزلة والانطواء او الانهزام او اكتفوا ببعض الشكليات من مظاهر الإسلام أم تمتمات أو تعاويذ ، وارتموا بأنفسهم فيمن يولون الأدبار عند الشدائد ومعركة الحق والباطل .

فهذا هو البلاء الوبيل الذي يزكم الأنوف ويعصر القلوب حسرة وندامة ، ولكن اعتلال الجسم وفساد الذوق والطعم فيه ، لا يغير في الواقع حقائق الأمور ، وقال تعالى :”بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق” (الأنبياء : 18) ، ثم قال : “فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض” (الرعد : 17) .

وأن شأن العقول إذا تبلدت ، وخبث فيها جذوة الإدراك الصحيح تغيم في عيون أصحابها الحقائق وخصائص الأشياء وكما قال الشاعر :

قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد وينكر الفم طعم الماء من سقم