الأمة الإسلامية ورسالتها الحضارية – 2

الخليج اليوم – قضايا انسانية – 7-9-1985

إن معرفة رسالة الأمة الإسلامية في هذه الحياة ومركزها في العالم هي المحور الأساسي لتحديد الدور الحضاري الذي لعبته هذه الأمة عب التاريخ ، وينبغي أن تلعبه في المستقبل ، وكان لكل أمة من أمم العالم العظيمة عصرها الحضاري الذهبي . وأما الأمة العربية فكانت أجدر الأمم بأن تكون أستاذ البشرية بفضل عبقريتها المرنة ، وتوسط مركزها بين الأمم ، مما أتاح لها الانتفاع بكنوز اليونان والرومان وكنوز الهند والصين والفرس التي ظلت تغط في سبات عميق .

وحمل العرب لواء الزعامة الحضارية وأرسلوا نورها إلى الشرق والغرب ، وأحيوا العلوم والحكمة والفلسفة والفنون المدفونة في أرجاء الدنيا . ويرجع كل الفضل في هذا المركز الفريد للعرب إلى الرسالة المحمدية التي منحتهم دستورا حيا صنع منهم أمة مثقفة متحضرة ناهضة ترسل النور والعرفان إلى سائر الأمم والشعوب في العالم ، كما أشار إليه القرآن الكريم : “هو اللذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة . . .. ” . فتحولوا إلى زعماء الحضارة والنشاط الفكري ، وكان هذا التحول بداية عصر جديد في تاريخ الحضارة الإنسانية .

وكانت بداية التكوين العلمي والحضاري والفكري للأمة الإسلامية ، وهي حب النبي العربي للعلم والمعرفة ، ذلك الحب الذي يميزه عن غيره من المعلمين ، ويجعله أقربهم نسبا إلى عالمالتفكير الحديث . ولما كان الرسول العربي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم لا يدعي لشخصه القدرة على صنع المعجزات ، فإنه يستشهد بالمبادئ والتعليم التي جاء بها على صدق رسالته التي بعثه الله بها إلى البشرية جمعاء ، ولا يلجأ إلى المعجزات للتدليل على تأثيره ، بل وكان يدعو دائما إلى النظر في الظواهر الطبيعية المألوفة ، للاستدلال على وجود الخالق لهذا الكون ، وقدرته وعظمته ، ويخاطب العقل والضمير ، ويدعو الناس إلى التأمل في هذا الكون العجيب ، والشمس والقمر والنجوم ، والسنن الكونية التي تسرى في هذا الوجود ، كما يقول القرآن اللكريم : “إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس ” . و “وما أنزل الله من السماء ماء فأحيى به الأرض بعد موتها” . و “وهو الذي يرسل الرياح بشرى بين يدي رحمته” .

وبفضل الروح العلمية والنظرية التي بعثها الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم في قلوب العرب ، أصبحت المدينة المنورة ، وبخاصة بعد فتح مكة ، مقصد طلاب العلم والبحث من سائر الأقطار ، فهرعت إليها العرفود من الفرس واليونان والشام والمغرب وأفريقيا ، على مختلف ألوانهم وأجناسهم ، وأن أغلبهم جاءوا لطلب العلم والاستماع إلى النبي عليه الصلاة والسلام الذي كان يحث على طلب العلم فيقول : “تعلموا العلم فإن تعلمه لله حسنة ، ودراسته تسبيح والبحث عنه جهاد ، وطلبه عبادة ، وتعليمه صدقة ، وهو الأنيس في الوحدة ، والصاحب في الخلوة” .

ويقول أيضا : “يوزن مداد العلماء بدم الشهداء فيرجح مداد العلماء دم الشهداء” . ويأمر أصحابه بطلب العلم ولو بشق الأنفس ، حيثما وجد : “اطلبوا العلم ولو بالصين ” . “اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق ، اقرأ وربك الأكرم ـ الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم ” . فدل على كمال كرمه تعالى بأنه علم عباده ما لم يعلموا ، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم ، ونبه على فضل الكتابة لما فيه م المنافع العظيمة التي لا تحصي ، فلو لا الكتابة ما دونت العلوم ولا قيدت الحكم والفلسفة ، ولا ستنبطت أخبار الأولين للآخرين .

وعلى هذه الصيحة الأولى من صوت الإسلام ، قد بنى محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم صرح حضارة أمته ، وقد أيقظت هذه الصيحة همة الأمة العربية ، وغوست تعاليم نبيها العظيم شجرة المعرفة في قلوبها ، مع جميع فروعها ، فتكونت في زمنه صلى الله عليه وسلم نواة لمدرسة علمية حضارية ، في المدينة المنورة التي كانت العاصمة الأولى للدولة الإسلامية ، فتطورت – تلك المدرسة – فيما بعد ، إلى جامعات كبرى عالمية في القاهرة وبغداد وقرطبة ودمشق وغيرها .

آسفا كلمة الوفود لم تصلح وشكرا لكم ……