أضواء على : التاريخ الهندي – 3

صوت الهند – القاهرة أغسطس 1970 م

ينظر دارس التاريخ إذا أراد الوقوف على فترة ما قبل التاريخ لأية أمة إلى الناحيتين : الطبيعية والإنسانية ، لأن الطبيعة الجغرافية لأي بلد لا يتم تكوينها في يوم أو يومين ، بل يتكون شكله الجغرافي نتيجة لحقبة طويلة من التطور الجيولوجي أو التكوين الأرضي ، ونختصر هنا بالإشارة إلى الناحية الإنسانية في تاريخ الهند في تلك الفترة .

وقد أجمع علماء التاريخ على أن المواد المختلفة التي كان يستخدمها الإنسان لسد حاجاته الأولية تدل على المراحل المتنوعة التي اجتازها في تاريخه البدائي ، وتنحصر هذه المواد عادة في المعدات البنائية ، مثل الحجر والحديد والمعادن وكذلك في الأسلحة والأواني وغيرها ، وعلى هذا التكوين الطبيعي ، قسموا فترة ما قبل التاريخ إلى عصور مختلفة : العصر الحجري ، العصر النحاسي ، العصر الحديدي ، ثم قسموا العصر الحجري إلى : العصر الحجري القديم حيث كانت المواد في تلك المرحلة تصنع من الحج وينحت بأشكال خشنة ويليه العصر الحجري الجديد الذي يتميز بالتحسن الذي حدث في صناعة الأدوات الحجرية من التقطيع الدقيق والصقل الأنيق ، وفي العصر النحاسي تستخدم الأدوات النحاسية من الأوانئ واللوحات ، وأما في العصر الحديدي فيستخدم الحديد لصناعة السيوف والدروع والرماح .

حضارة أندس 3750 إلى 2750 ق . م

يجد الباحث التاريخي وثائق أثرية عديدة عن الهند في فترة ما قبل التاريخ ولكنها مبعثرة في أرجاء البلاد بحيث يصعب تكوين فكرة شاملة ومحققة عن تلك الفترة ، ولكن قد كشفت التنقيبات الأثرية التي أجريت في منطقة (أندس) الواقعة في شمالي شبها القارة الهندية عن مجموعة كبيرة من الآثار والمعالم التاريخية التي تدل على قيام حضارة كاملة في تلك المنطقة .. وقد أطلق علماء التاريخ على هذه الحضارة (حضارة أندس) ، وجرت التنقيبات المذكورة في مركزين رئيسيين في تلك المنطقة هما : (هارابا) الواقعة فيما بين (لاهور) و (مولتان) و (لاركانا) في السند .

وفي مقدمة الشهادات التي عثر عليها في هذين المركزين بقايا المباني للسكنى وأماكن للعبادة وحمامات عامة ، وغيرها من الآثار التي تدل على ازدهار مدنية متكاملة في منطقة وادي أندس في فترة ما بين 3759 إلى 2759 ق.م ، وفيما يلي بعض التفاصيل عن الآثار والحفريات التي يستدل منها مدى تقدم وتطور حضارة أندس والتي تلقي ضوء على تاريخ الهند في تلك الفترة .

ويستدل خبراء الحفريات من القواعد الراسخة والردهات العالية التي استخدمت في مباني (موهنجودارو) على أن هذه المنطقة كانت معرضة للفيضانات ، وقامت على سطح الموضع الذي عليه (موهنجودارو) سلسلة من قمم الجبال يتراوح علوها من 20-70 قدم ، وعثر في المساحات الواقعة ما بين هذه القمم وبين مستوى المياه في جوف الأرض سبع طبقات من البقايا ويرجع عهد الثلاثة الأولى منها إلى العصر الحديث ، والثلاثة الأولى منها إلى عصر متوسط قبله ، وأما السابع فيرجع إلى العصر البدائي ، والمعتقد أن هناك طبقات أخرى أكثر قدما من هذه الآثار دفنت تحت المياه على عمق 40 قدما من سطح الأرض على أن الطبقات التي اكتشفت إلى الآن تدل على قيام حضارة كاملة يرجع مبدؤها إلى فترة لا تقل عن ألف عام .

وتحتوي بقايا المباني المكتشفة في (موهنجودارو) على دار واسعة ، على شكل قصر كبير وله مدخل واسع وقاعة فسيحة للاستقبال وفناء مربع بمساحة 32 قدما ، وأما غرفه العديدة في الطابقين الأعلى والأسلف مرصوفة بالطوب ، ويحيط به مجرى للمياه وهناك أيضا مفسل كبير دائري ويتألف هذا المفسل من : ساحة مربعة مفتوحة وفي جوانبها غرف ليستريح فيها الرواد ، وفي وسط الساحة المربعة حوض مدرج للسباحة ، والبناء الهندسي لهذا الحوض يدل على التطور المعماري الذي وصلت إليه تلك الحضارة فقد صنعت أرضية هذا الحوض من الطوب الناعم المغطي بطبقة من طين الجبس يبلغ سمكها أربعة أقدام وطليت تلك الطبقة بطبقة من القير الذي لا تؤثر عليه الرطوبة ، ثم عززت من ورائها بجدار خفيف آخر من الطوب الأحمر وعليه طبقة من الطوب الخام ، وجدير بالاعتبار أن هذا الحوض ما زال محفوظا على الرغم من مضى 5000 سنة على بنائه ، على أقل تقدير .

وهناك آثار أخرى تدل على تقدم الفنون الجميلة والصناعات الهندسية في تلك الفترة ، فقد تبين من تلك الآثار على أن الذهب والفضة والنحاس والرصاص وغيرها قد استخدمت في صناعات الأدوات والأواني المنزلية الحلي كما استخدمت أحجار مختلفة في الأعمال البنائية ، ويستدل أيضا من مجموعة بقايا المنازل التي عثر عليها في منازل (موهنجودارو) أن عادة الغزل والنسج كانت منتشرة بين طبقات الشعب المختلفة لأن أجزاء بعض المغازل مصنوعة من المعادن الغالية وأخرى من السواد الرخيصة ، ودلت التحقيقات الغنية التي جرت حول بقايا القطن على أنه يشبه القطن الهندي الخشن .

وأما الحلي التي اكتشفت من ضمن تلك الآثار فتحتوي على القلادات والأساور والخواتم والخلاخل والحلقان ومنها ما كان مرصعا بالأحجار الكريمة وخاصة العقيق الأحمر الذي كان يستعمل بكثرة في الزنار ، وكانت معظم الأواني المنزلية فخارية ذات حمالات ومنها الكؤوس واقداح الشرب ، وقد ظهرت فيها أيضا أدوات اللعب الفخارية ومنها الصفارات والطيور والعربات والثيران .

وظهرت في مجموعة آثار تلك الحضارة شواهد تدل على انتشار طريقة كتابية في ذلك العهد وهي تشبه (الكتابة التصويرية ) وعثر علة 396 علامة لهذه الكتابة إلى جانب عدد من النقوش على الشمع والإختام وقطع الخزف واللوحات النحاسية ، كما وجد فيها مجموعة حروف لا يتعدى عددها اثني عشر حرفا ذات قيمة لفظية ، ولوحظ أن الكتابة كانت من اليمين إلى الشمال .

وأما التماثيل التي وجدت في آثار (موهنجودارو) و(هارابا) فتدل على تطور الفنون الجميلة في تلك الفترة وكانت من ضمن تلك التماثيل نماذج للثور وكلب والصيد والخروف والسنجاب والقرد ، ومنها أيضا تماثيل فخارية للنساء ، ومن المرجع أن هذه التماثيل كانت معبودات تلك العهود ، ووجدت في (موهندودارو) آثار تدل على انتشار عبادة الحيوانات حينذاك ، لأن جدران المعابد كانت منقوشة بصور وتماثيل لحيوانات ومخلوقات أسطورية ، وكذلك تدل أسماء الإلهية التي ورد ذكرها في الكتب المقدسة الهندوكية القديمة أو وجدت منقوشة في معابد ومباني (موهندودارو) و (هارابا) تدل على أن عبادة الحيوانات والأشجار والأحجار كانت سائدة بين أهالي (أندس) .

وكان تطور حضارة (اندس) جزء من الحركات التاريخية في مراحل دورة الحضارة الإنسانية المتكاملة ، وأن هذه الحضارة التي نمت في وادي أندس بشبه القارة الهندية والحضارات الأخرى المماثلة التي نشأت في وادي النيل بمصر ووادي دجلة والفرات بالعراق قد تركت آثارا بعيدة المدى في ميدان دفع الإنسانية إلى حضارة مشتركة متنافسة تعيش في ظلها البشرية في جو من الحب والوئام .

(يتبع …)