كل شيئ يخرج عن حده ينقلب إلى ضده

الخليج اليوم – قضايا إسلامية – الاثنين 28-أبريل-1986 م

إن الإسلام هو دين الفطرة وأما الفطرة فهي الطبيعة التي خلق الله الإنسان عليها فقال تعالى :”فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون” (الروم : 30) . وكلما تنسجم حياة الإنسان من الفطرة السليمة كانت أكثر سعادة وانتظاما وطمأنينة لأن حياته حينذاك لا تصطدم مع النواميس الكونية ولا تناقض الميزان الكوني الذي يقوم عليه نظام الحياة في الكائنات كلها كما قال تعالى بصريح البيان في كتابه الخالد : “الشمس والقمر بحسبان والنجم والشجر يسجدان والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان” (الرحمن : 7) .

من طبيعة الحياة الفطرية “التوسط”

إن التوسط في كل شيئ بدون إفراط ولا تفريط وبلا إسراف ولا تبذير ولا بخل ولا تقتير ، إنما هو طبيعة الحياة الفطرية السليمة ، ومن هنا جاء في الأثر الحكيم : “خير الأمور أوسطها” . ولهذا السبب أيضا كانت أمة محمد صلى الله عليه وسلم “أمة وسطا” كما وصفها رب البشر في كتابه الكريم : “وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا” (البقرة : 143) .

والنهي عن الإفراط والتفريط والإسراف والتبذير الذي ورد في القرآن والسنة النبوية يشمل كل شيئ في حياة الإنسان فقد نهى القرآن عن الإسراف والتقتير في الإنفاق فقال : “والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما” (الفرقان : 67) . ونهى عن الإسراف والتبذير في المأكل والمشرب والملبس في آية واضحة صريحة إذ قال : “يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين” (الأعراف : 31) . وأن جملة “لا تسرفوا” تعود إلى الأوامر الثلاثة المذكورة في صدر الآية وهي “خذوا زينتكم” و “كلوا” و”اشربوا” فإن النهي الوارد في جملة “لا تسرفوا” ينطبق على الملبس والمأكل والمشرب الخارج عن الحد اللازم المسموح في نطاق التوسط والاعتدال .

ثم جاء وصف المبذرين في القرآن الكريم بأنهم “إخوان الشياطين” إذ قال تعالى في سرة الإسراء : “إن المبذير كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا” (الإسراء : 27) . بينما وصف المسرفين بأنهم محرومين عن محبة الله عز وجل فقال : “إنه لا يحب المسرفين” (الأعراف : 31) . وقد بين المفسرون كلمتي “الإسراف” و “التبذير” كما يلي : “أن “التبذير” يكون محرم على الإنسان وأما “الإسراف” فيكون في التصرف أكثر من المألوف فيما أحل الله له ، ولهذا شدد القرآن في وصف المبذرين بأنهم إخوان الشياطين بينما خفف الوصف عن المسرفين فقال : “إنه لا يحب المسرفين” ، وقد نهى الله تعالى عن الإسراف فيما يملك الإنسان من المال ومتاع الدنيا أولا لأنه مستخلص فيه وكيل عليه فقط وأن ملكه الحقيقي هو الله تعالى ويجب عليه إذن أن يتصرف فيه ويعمل حسب إرشادات الموكل وإلا كان مهملا لواجبه ومتعديا على حدوده فيكون عرضة للانتقام والتأديب والاستبدال وإعفائه عن وظيفته الموكلة إليه فيقعد ملوما محسورا ، فليحذر المبذرون والمسرفون مغبة تجاوزهم وتغافلهم عن إرشادات مالكهم الحقيقي .

مساوئ الخروج عن الحد المسموح

وكما وضح من البيانات السابقة آن كل شيئ يخرج عن حده ينقلب إلى ضده فينقلب السير عسرا والسهل صعبا والحب كرها ، والنعمة نقمة والصحة مرضا والسعادة شقاوة فالإسراف في الملبس يؤدي إلى الغرور والتكبر اللذين يمقتهما الله تعالى والناس جميعا كما يؤدي إلى احتقار الناس صاحبه والاستهزاء به والضحك على غباوته وحماقته وفي الوقت نفسه يؤدي ذلك إلى ضياع المال فيما لا طائل تحته وكان من الممكن أن ينفقه فيما ينفع نفسه وأهله ووطنه وفيمن هو أحوج إليه منه من الملابس الضرورية في قريته ومدينته ووطنه وهذا كا نراه كل يوم وكل مكان ، وأما الإسراف في المأكل والمشرب فيؤدي إلى التخمة وكثير من الأمراض وزيادة الوزن السكر والدم ، وأن هذه هي المصيبة الشائعة العامة في مجتمعات الرخاء والرفاهية ومتع العيش .

وقد يظن بعض الجهال أو الحمقى الذين لا يفهمون حقيقة الأهداف في الإسلام النبيلة الفطرية السليمة فيدعى . حينما يستمع أو يقرأ مثل هذه التعليمات الفكرية القيمة ، أن الإسلام يدعو إلى الزهد في المأكل والمشرب والملبس ومتع الحياة الدنيا أو يريد أن يعيش الناس في تقشف وفقر وخشونة ، وأن هذا التفكير هو خاطئ وسقيم وناشئ عن الجهل المطلق وبلادة العقل والفكر ومن الانبهار ببعض وساوس وأخاديع شياطين الإنس والجن ، وفي الحقيقة أن الإسلام يحارب الرهبانية والهروب عن متع الحياة الدنيا بالطيبات ، ولا يدعو إلى الانعزال عن الدنيا والمجتمع أو التنسل والانقطاع عن العمل للحياة والالتزام بخشن الثياب أو قليل الطعام وكل هدف الإسلام من تشريعاته التنظيمية والاجتماعية والاقتصادية هو الاعتدال والتوسط في كل شيئ وعدم سيطرة الهوى على قلبه بأني يصبح عبدا للشهوات والنزوات فضحية للزلات والنكبات ونهبة للأمراض والعلل ، ونرى اليوم آثار هذا الخروج عن الحد الطبيعي في مرافق الحياة منتشرة ومتحكمة في مصير الإنسان في كل مكان ، وصدق الله العظيم : “ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى” (طه : 81) .