من طبيعة الحياة الفطرية التوسط في كل شئ

الخليج اليوم – قضايا إسلامية – السبت 11-يناير-1986 م

إن الحياة الطبيعية المعتجللة هي التي تقرب الإنسان إلى سعادة واطمئنان وأن هذه الحياة هي التي تنسجم مع نواميس الفطرة التي فطر الله الناس عليها فكلما يبتعد الإنسان عنها يصطدم بقوانين الطبيعة ولا يغالبها . والإفراط والتفريط في أي شيئ مخالف للفطرة وقانون الطبيعة لأن نظام الكون كلها قائم على الميزان والتوازن والاعتدال وأن أي انحراف عن ذلك الميزان ليخل النظام الكوني فينهار ويتدمر ومن هنا نفهم حكمة قوله تعالى : “والسماء رفعها ووضع الميزان” (الرحمن : 7 ) .

معنى الإسراف والتبذير

ن المعنى اللغوي لكلمتي الإسراف والتبذير هو : التصرف أكثر من المألوف أو الخروج عن حد الاعتدال . وذكر بعض المفسرين أن التبذير يكون في المحرمات مثل التبذير في أموال الضعفاء من المسلمين كالأيتام والفقراء . وأما الإسراف فيكون في الإكثار فيما أحل الله تعالى للإنسان وذلك بالتصرف فيه أكثر من اللازم والمألوف .

وربما يشير إلى هذا الفرق الدقيق بين الإسراف والتبذير في المفهوم القرآني قوله تعالى في شأن المبذرين : “إن المبرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا” (الإسراء : 27) بينما قال في شأن المسرفين : “إنه لا يحب المسرفين ” لأن الآية تقول : “يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا زلا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ” (الأعراف : 31) . وقد نهى الإسلام عن الإسراف والتبذير في أي شيئ من شؤون المياه نهيا عاما فقد نهى عن الإسراف في كل ما يملك الإنسان من متاع الدنيا وأن هذا المتاع ليس ملكا مطلقا له بدون عنان ولا نظام وقيود ولكنه ملك الله تعالى وقد جعل الناس مستخلفين فيه ووكلاء عليه فيجب على الإنسان الذي يملكه أن يراعي إرشادات وموضاة مالكه الحقيقي وإلا فيسخط عليه وإذا اشتد غضبه سينزعه من يده وينقله إلى أخرى ويجب على الإنسان العاقل أن ينتبه إلى تحذيره تعالى : إنه لا يحب المسرفين وأن عدم ليؤدي إلى غضبه وهو يؤدي إلى نقلته :

كل شيئ يخرج عن حده ينقلب إلى ضده !

ومن قوانين الطبيعة المعروفة أن كل شيئ يخرج عن حده المطلوب المسموح ينقلب إلى ضده المحظور ، وعلى سبيل المثال فإن الإسراف في المأكول والمشرب يؤدي إلى التخمة وعسر الهضم وبالتالي إلى كثير من الأمراض المهلكة ولهذا شرع الإسلام الوسط في الأكل والشرب فقال القرآن : كلوا واشربوا ولا تسرفوا .

وأما الإسراف في الملابس فيؤدي إلى الخيلاء والغرور والتكبر كما يؤدي إلى تضييع الأموال وتحقير الناس واستهزائهم وصاحبه وضحكهم على حماقته واغتراره بالمظاهر الواهية ، وخاصة في عصر الحضارة والثقافة والوعي العقلي الذي ينظر إلى الأمور في حقيقتها وأخذها بلبها ومنبعها بدون الاغترار بمظاهرها الخلابة وقشورها البراقة ، ولا شك في أن هذه المظاهر والخيلاء ستؤدي إلى الميوعة والخلاعة والأنوثة وتبعد صاحبها عن الجدية والعزيمة والرجولة والخشونة في مواجهة تحديات الحياة الجادة الناجحة .

ينهى الإسلام عن الإسراف حتى في العبادات لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق فأن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى” . وذات مرة رأى النبي صلى الله عليه وسلم الصحابي سعد رضي الله عنه وهو يتوضء فقال ” ما هذا السرف يا سعد ” فقال سعد : أفي الوضوء سرف . قال : لو كنت على نهر جار .

وعند وصفه لعباد الرحمن يقول القرآن الكريم : والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ” (الفرقان : 67) . وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “هلك المتنطعون ثلاثا ، والمتنطعون هم المتشددون في غير موضع التشدد ، وينهى الإسلام عن الإسراف في نوافل العبادات إلى الحد الذي يرهق الجسم أو يؤدي إلى تفريطه في بعض الحقوق الإنسانية .

وجاء رهط من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيوته عليه السلام يسألون عن عبادته ولما سمعوا عن عبادته وقيامه في الليل وما إلى ذلك في شأنه مع عظيم قدره وغفران ذنبه وقربه لربه فقال أحدهم : أما أنا فإني أقوم الليل ولا أنام ، وأما الآخر فقال : إني أصوم الدهر ، وقالت الثالث : إني لن أتزوج النساء ، ولما وصل خير هذا الرهط من أصحابه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قال لهم أنا أعلمهم بالله وأخشاكم له ولكني أقوم وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني .

لا رهبانية في الإسلام

إن الرهبانية هي الانقطاع للتعبد مع الانعزال عن أعمال الدنيا وعن المجتمع . وقد ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل يقوم الليل ويصوم النهار وينقطع للعبادة والذكر ، فسأل قومه من يكفيه طعامه وشرابه قالوا : كلنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كلكم خير منه ، وجاء في حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كلن يقول : رهبانية أمتي الجهاد في سبيل الله ” .

إن الزهد المسموح في الإسلام هو الاعتدال والتوسط في كل شيئ وعدم سيطرة الدنيا على قلبه بأن يصبح عبد للمال والجاه والهوى . وقال الشيخ زين الدين المعبري المليباري :- وازهد وذا فقد علاقة قلبك بالمال لا فقد له تك أعقلا .