مكانة “المدينة المنورة” في تاريخ الإسلام والمسلمين

المدينة – 8 جماد الأول 1402

كان من نتائج هجرة الرسول من مكة إلى المدينة ، أن تكونت في المدينة نواة الدولة الإسلامية الأولى وتقع المدينة المنورة شمالي مكة ، على مسيرة أحد عشر يوما منها فقد كانت في تلك الأيام مدينة مكشوفة معرضة للغزو الخارجي .

حتى قام النبي صلى الله عليه وسلم ، بحفر الخندق المشهور لرد عدوان قريش ، ويقال إن أول بني يثرب أحد رؤساء العمالقة ، وظلت تسمى باسمه حتى قدم إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان العمالقة يسكنون في يثرب وفي ضواحيها في العصور الغابرة ، ثم توالت هجرة اليهود إلى بلاد العرب فرارا من وجه مضطهديهم أو الآخذين بالثأر منهم من البابليين ، واليونان ، والرومان ، فاستطنوا شمال الحجاز .. وكانت أشهر القبائل اليهودية النازلة ببلاد العرب ، بني نضير في خيبر ، وبني قريظة في فدك ، وبني قينقاع بالقرب من المدينة ذاتها ، وكان اليهود يقيمون في قرى محصنة فاستطاعوا أن يسيطروا على جيرانهم من القبائل العربية إلى أن جاءت الأوس والخزرج – وهما قبيلتان من نسل وقحطان – فأقامتا في يثرب ودانتا لليهود في أول الأمر ثم صارت لهما الولاية عليهم .

وكانت حال “يثرب” السياسية حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم إليها ، حالة حرب عوان بين الأوس والخزرج ، ومؤامرات من اليهود لإشعال نار الفتنة بين هاتين القبيلتين العربيتين ، ومحاولتهم السيطرة على القبائل العربية المجاورة ، فكان قدومه صلى الله عليه وسلم فاتحة عصر جديد في تاريخ جزيرة العرب لأنه آخى بين الأوس والخزرج حتى نسوا ما تأصل في نفوسهم من عداوة وضغائن ، وأصبحوا بنعمة الله إخوانا ، وانضموا تحت لواء هجروا وطنهم ولحقوا به في المدينة ، وبين هذين الفريقين من المؤمنين في السراء والضراء توثيقا لعرى المحبة والأخوة الإسلامية بينهم .

وبهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وضع أول حجر في بناء الدولة الإسلامية ، واتخذ مسجده مقره العام ليقيم فيه المسلمون شعائر دينهم ، وليعقدوا فيه اجتماعاتهم للنظر في شؤونهم العامة ، ووضع الرسول للجماعة الإسلامية نظاما تسير عليه في زمن المسلم ن والاشتراك معهم في الدفاع عن المدينة ضد الخطر الخارجي ، ثم أخذ يعد العدة لنشر الدعوة الإسلامية بين القبائل العربية ، ومحط أنظار العرب وشعوب العالم .

وكان بالمدينة في الفترة الأولى لهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إليها ثلاث طوائف مختلفة ، الطائفة الأولى : المهاجرون والأنصار وهم نواة الإسلام ، وكانوا يحبون رسول الله حبا لا حد له ، إذ أن روح الأخوة الإسلامية التي غرسها النبي صلى الله عليه وسلم بينهم حالت دون ظهور أي أثر من آثار الجاهلية ، وبدأ الأنصار والمهاجرون يتنافسون في بذل أكبر تضحية في سبيل الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، والطائفة الثانية : كانت تتألف من المنافقين ، وعلى رأسهم عبد الله بن أبي ، وكان عبد الله يطمع أن يكون ملكا على المدينة أحبط أعماله في استغلال من يريد إذ تولى زمام السلطة ، فاضطر هو وأنصاره في غمرة الحماسة التي استقبل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن يتظاهروا بالإسلام ، ولكنهم كانوا يتحينون الفرصة لينقلبوا على المسلمين ، وأخذوا يدبرون المؤامرات ضدهم في الخفاء ، ولذلك كانوا مصدر خطر كبير على الدولة الإسلامية الناشئة ، وهذه الطائفة هي التي ذكرها القرآن الكريم في سورة المنافقين : فقال فيهم :” إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله ، والله يشهر إن المنافقين لكاذبون ، اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون” (المنافقون : 1-2) .

وأما الحزب الثالث في المدينة : فكانت تتألف من اليهود الذين أثارت ضغائنهم وأحقادهم هجرة الرسول إليها ، ورسوخ عدوته فيها ، وذيوع أمرها في أنحاء جزيرة العرب ، فتحزبوا ضد المسلمين وأصبحوا أشد الأحزاب خطرا على الدعوة الإسلامية ، مع أنهم كانوا يستفتحون على المشركين إذا نشبت الحرب على الفريقين بنبي يبعث قد قرب زمانه ، ولكن أعماهم حب الرياسة ، فاستعظموا الأمر ، مما زاد خطرهم على الدعوة الإسلامية في المدينة أن كانت لهم بقريش علاقات تجارية وثيقة ، كما كانت توجد منهم شعب في مختلف القبائل المعادية للإسلام ، وكذلك كان يساعدهم على المخالفة للرسول صلى الله عليه وسلم ومحاربة دعوته جماعة المنافقين من عرب المدينة .

وقد بلغت المؤامرات الثلاثية – بين اليهود والمنافقين والمشركين ضد الدولة الإسلامية الناشئة ذروتها ، وهذا الوضع استلزم اليقظة التامة من جانب النبي صلى الله عليه وسلم ، فكان يعاملهم بغاية الصبر والحلم رجاء أن يستميلهم إلى الحق والسلم ، وكان يواصل دعوته فيهم بالحكمة والمعظة الحسنة ، وتظاهر اليهود في أول الأمر بالاشتراك مع أهل المدينة في الترحيب بالنبي صلى الله عليه وسلم ، والتزموا خطة المسالمة فترة من الزمان ، وذلك على أمل أن هذا الداعية المتواضع الذي نزل على الأوس والخزرج الذين كانوا أعداءهم بالأمس ومواليهم اليوم ، قد يساعدهم على قهر العرب واستعادة مملكة يهوذا ! .

ولم يكد يمضي زمن قصير حتى عاودهم داء التمرد القديم الذي دفعهم إلى قتل أنبيائهم ، وتجلت أعراض هذا الداء فيما جاهروا به من الفتنة ، وما أسروا من الغدر والخيانة ، فجاهروا المسلمين بالعداوة وساعدوا قريشا علنا على أن ما أظهره النبي صلى الله عليه وسلم من الرفق وكرم المعاملة ما كان ليرضى اليهود ، ولم تجد الحيل في إطفاء نار الحقد التي كانت تتأجج في صدورهم ، وغاظهم أنهم عجزوا عن اتخاذه آلة في أيديهم لتهويد العرب . وإن الدين الذي جاء به أقرب إلى الفطرة من قصصهم التلمودية ، فلم يلبثوا أن نقضوا العهد والميثاق ، وانضموا إلى أعداء الإسلام ، ولما سألتهم قريش “أديننا خير أم دين محمد؟ “قالوا “بل دينكم خير من دينه” ، مع علمهم بكل ما ينطوي عليه دين قريش من شرك وخرافات ومساوئ .

وإذا أردنا أن نعرف مدى أثر هجرة الرسول إلى المدينة على تطور الدعوة الإسلامية وتدعيم دعائمها وتوسيع نطاق نفوذها في أنحاء جزيرة العرب وخارجها ، وجب علينا أن نتتبع مجرى الحوادث الهامة التي تبعت وصول الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، ومنها حدوث الظروف التي أفضت إلى عقد المسلمين معاهدات واتفاقيات مع اليهود وقبائل العرب في المدينة ، وفيما جاورها من المدن ، وكذلك دخول المسلمين في حروب دفاعية مع أعدائهم وخاصة ما نتج عنها من انتصارهم في بدر ، وكان للنتائج التي ترتبت على هذه المعاهدات ، والانتصارات أثر عميق في نفوس المسلمين ، ووقع كبير في أسماع العرب أجمعهم ، من ذلك أو الوفود قد قدمت إلى المدينة لمقابلة بني الإسلام صلى الله عليه وسلم ومبايعته بعد انتشار خير دعوته في أرجاء الجزيرة .

ومنها تكوين حلف منظم يجمع شمل العناصر المتنافرة المتضاربة في المدينة وضواحيها ، فوضع الرسول وثيقته التاريخية يبين فيها ما للمسلمين وما عليهم فيها بينهم ، وما للمسلمين واليهود وما عليهم ، وتظهر لنا هذه الوثيقة عظمته الحقيقية ومواهبه السياسية ، وهدفه المنشود في إنشاء مجتمع سليم ينتظم الجنس البشري كله وكذلك سدد بهذه الوثيقة ضربة قاضية إلى الفوضى التي كانت سائدة بين قبائل العرب .

وهكذا بدأ صوت الإسلام يتردد في قارات العالم من المدينة المنورة ، العاصمة الأولى للدولة الإسلامية ومقر أشرف الخلق محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم .