ما أشد احتياج العالم اليوم إلى رسول الرحمة

الخليج اليوم – قضايا انسانية -15/10/1985

إن العلم اليوم قائم على فوهة من البركن ، وزاخر من التقلبات ومليئ بالأخطار وحائر بين أطماع الدول الكبرى ومائج في أنواع من الكروب ومؤجج في سعير الحروب في كل مكان على وجه الأرض . وكل هذا أو ذاك لا طلبا لمصالح إنسانية ولا لإقامة عدالة اجتماعية ، بل لتحقيق المطالب الشخصية والأغراض الذاتية لصنوف من الناس .

وتنفق ثروات الأرض كلها وتصرف القوى البشرية بأجمعها في سبيل اختراع الأسلحة الفتاكة ، ليبلو بعضهم بعضا أيهم أشد فتكا للملايين من الجنس البشري في أقرب وقت أسرع صورة ، وأيهم أحسن تدميرا للمدن والقرى مع مظاهر حضارتها وملامح مدنيتها ن فتمنح الأوسمة الفخرية ، والرتب العسكرية السامية للذين يقومون بفتك الملايين من الأبرياء والضعفاء بصورة أشد وأبعد من المبادئ الإنسانية وأجهل لأخلاق الحرب في ساحة المعارك !

قلب الأوضاع رأسا على عقب

لقد انقلبت اليوم معاني الكلمات ومفاهيم المبادئ رأسا على عقب ، فإن الحضارة في الاصطلاح الحديث هي عبارة عن الانغماس في توفير الوسائل لإتمام الأهواء النفسية وإشباع الشهوات البهيمية وتركيز الهمم في جميع الأمور بالخداع والمكر والغش ، والاستهتار بالأخلاق الفاضلة والاستمتاع بالانحلال الخلقي والميوعة ونشر الفوضى والجرائم الخلقية في المجتمع ، وتفريق أواصر الأسرة وتدمير الحنان والود والاحترام بين الكبار والصغار والقضاء على العادات الحسنة واستبدالها بالتقاليد البالية ، وأما العلم فيراد به الآن إعداد الإنسان لأن يكون آلة كيماوية وجهازا ميكانيكيا للإنتاج الصناعي والزراعي ، وخاصة لإتناج الأسلحة الفتاكة للإنسانية ولتهيئة أسباب المتع الجوفاء . وأما الثقافة فعبارة عن تهيئة بعض وسائل الترفيه واللهو والهيئات لإثارة الشهوات والفتن والفساد في المجتمع ونشر الفوضى والتسيب في الشباب باسم الفنون الساقطة والبرامج الترفيهية الهابطة التي لا تجد شيئا لتكوين شخصية أو بناء مستقبله أو خدمة وطنه وأمته ، حتى يكون بفضل هذه الثقافة هباء منثورا !

ولا يقف قلب الأوضاع عند هذا الحد بل القاموس الحديث يفسر بل القاموس الحديث يفسر “الرجعية” بأنها من الدعوة إلى تنمية القوى الروحية في الإنسان الذي هو روح ومادة ، فلا يمكن تقدمه الحقيقي إلا بالعنصرين معا وأم ميزة الإنسان ليست في تقوية القوى المادية والبهيمية فيه بل في تقوية قواه الروحية والمادية معا ، ولا يلبث هذا القاموس المقلوب أن يلقب كل من يدعو العالم الإنساني إلى المبادئ السامية والأخلاق الإنسانية والمثل العليا بألقاب متنوعة مثل : “الرجعي ” و “الجامد ” والجاهل الذي لا يعرف المدنية والعصر الحديث ! ..

هذه الحيرة ليست ببدعة في التاريخ فإذا نظرنا بعين التحقيق والإنصاف إلى تطورات العالم الإنساني منذ البداية ، نجد في صفحات التاريخ أن هذه الحيرة وهذا التوتر ليس ببدع في تاريخ البشرية فأحسن وأقرب مثل لحيرته الأولى المماثلة هو ما كان يشهده العالم وقت بعثة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم بشريعة إلهية خالدة ، ونظام إنساني عالمي ، وكان العالم حينذاك في صراع مرير بين الشرق والغرب ، بين الفرس والروم والتكالب الدائم على سيادة العالم ، وحروب في إثرها حروب وكروب تتبعها كروب ، فغطرسة كسرى خربت الشرق وكبرياء قيصر خربت الغرب ، كل أهدافهم الجلوس فوق أبراج السلطة وامتصاص دماء الضعفاء واستغلال الشعوب المغلوبة ، فأهدرت آدميتهم في سبيل أهواء وأطماع كسرى وقيصر ، ومن ناحية أخرى أفسدت الوثنية العالم العقلي بعبادة الطبقات والعصبيات في قلوب الناس ، فصارت الإنسانية بيد هذه العوامل المخربة والعادات الهدامة ، تنادي ربها وتستغيث باريها :

يا رب تدارك عبادك بوسائل الأمن والإصلاح ومبادئ العدل الحق ، فبعث خالق البشر ومالكهم وربهم الأرحم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم بدستور منه ليخرج الإنسانية من الظلمات والجهالة والفساد إلى شاطئ النور والعلم والأمن ، فخلص بهذا السلاح الإنسانية من مخارب الحرب والدمار والفساد والظلم ، فصار حقا “رحمة للعالمين” ألا للتاريخ أن يعيد نفسه !! .