لا غربة للمؤمنين في أي مكان

الخليج اليوم – قضايا إسلامية الثلاثاء 9-ديسمبر -1986 م

إن الغربة والغريب والغرباء وما إلى ذلك من الألفاظ الشائعة والمصطلحات التي تشتق من مادة غرب ، غالبا ما تستخدم في المناهج الدالة على :الابتعاد عن الأهل والوطن ، وعلى الوحدة والعزلة عن البيئة التي قد ألف بها وكذلك على : السفر والإقامة في ظروف موحشة لا أنيس له ولا مؤنس ، ويشعر بالخوف من الانعزال والوجل من متجددات الأحوال ، وهناك أيضا استخدام للفظ “الغربة” بمعنى الانفراد وعدم “المعية” لأحد ، وعلى هذا المفهوم ، تعنى الغربة فقدان المعية ، وبمعنى أوضح إذا كان الشخص في معية أحد أو وجد أحدا يؤنسه ويقيم في مكان غير مكانه المألوف وبين أناس أجانب بحكم بيئته الأصلية ، تزول عنه حالة الغربة ولم يعد غريبا بالمنظور العادي ، لأن المعية قد أزالت عنه تلك الصفة كأن المعية والغربة لا تجتمعان في شخص واحد وفي حالة واحدة ، ومن هنا نفهم المعنى الحقيقي لغروب الشمس لأن الشمس قائمة في مكانها الأصلي ولا تحيد ولا تغرب ولا تنتقل ولا تسافر فلماذا تطلق كلمة “الغروب” أو “غرب” على تلك الحالة وذلك لأن الشمس قد فقدت في ذلك الوقت أو فقدنا حينذاك ، صفة المعية ولم تعد ظاهرة في داخل أفقنا ودخلت في حيز خارج عن أفقنا فغربت عنا أي فقدت المعية معنا في أفق واحد .

وهكذا تدور صفة الغربة لأي إنسان أو أي كائن آخر في هذا الكون حالة مع اتصافه بصفة المعية مع أي شيئ أو زوال ذلك الاتصاف ، وأما المؤمن فلا يتصف أبدا بصفة الغربة المكلفة في أي مكان كان ، على وجه الأرض أو في جوفها ، أو في قاع البحر أو في غياهب الجبال والغابات ولا يشعر بحالة الغربة والوحدة والوحشة لأنه دائما في معية خالقه وبارئه وخبيره وحفيظه وهو أقرب إليه من حبل الوريد ، ويعلم خائنة الأنفس وما تخفي الصدور ولا يبتعد عنه طرفة عين ولا يغرب عنه شيئ من أمر عبده حتى أدنى من مثقال ذرة ، وقد أشار إلى هذه الحقيقة الواضحة الثابتة عقلا وشرعا ، وفطرة الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم إذا قال لأبي بكر رضي الله عنه وهما في أشد حالات الغربة والوحشة والخوف لأنهما كانا في غار بعيدين عن الأهل والسكان بل كانا في حالة غربة كاملة عن أي مصدر للعون والاستعانة وعن أي طريق للنجاة من الوقوع في قبضة الأعداء المتربصين وفي أنظار الباحثين عنهما في كل مكان وبكل الوسائل وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه قد شعر بالغربة الكاملة وبفقد أن معية أحد لنصرهما وإنقاذهما من هذه الغربة الموحشة المخيفة الخطيرة فقال :” لا تحزن إن الله معنا” (التوبة : 40) .

وإن الغربة هي من أهم أسباب الحزن أو الخوف في ظاهر حياة الإنسان وأن الشعور بالمعية يزيل عنه نزعات الحزن والخوف ، ومادام المؤمن على يقين تام وإيمان راسخ بأن الله معه دائما وهو أقرب إليه من حبل الوريد فكيف يشعر بالغربة وفضلا من أنه في معية الخلاق القدير وعلام الغيوب والرزاق ذو القوة المتين ، وأن قلبه مطمئن بقضائه وقدره وذهنه متعلق به ولسانه رطب بذكرة ودعائه ونفسه مليئة بسكينته وأمنه وهو في كل مكان مع خالقه ونظره ، ورازقه ورزقه ، حافظه وحفظه .

وقد أكد القرآن الكريم هذه المعية السمية مع المؤمنين في كل حين في آيات عديدة ومنها : (1) “واعلموا أن الله مع المتقين” (البقرة : 194) . (2) “إن الله مع الصابرين” (البقرة : 153) . (3) “وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير” (الحديد : 4) . (4) “يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معكم” (النساء : 108) . وما دام المؤمن موقنا بحمية ربه في كل لحظة وفي كل مكان ومطمئنا برعايته ورقابته وبعلمه الشامل الكامل بكل أحواله وشؤونه وحركاته وسكناته فكيف يشعر بغربته ؟ .

قبسات مضيئة

من القرآن الكريم

“ونحن أقرب إليه من حبل الوريد” (ق : 16) .

من الهدي النبوي

“احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده أمامك” (رواه الترمذي) .

من الأدعية المأثورة

كان آخر قول إبراهيم عليه السلام حين ألقى في النار : “حسبي الله ونعم الوكيل” (رواه البخاري) .