عناصر الخلود في دعوة الإسلام (9) النظام الاقتصادي العادل

الدعوة – 15-مايو-1982 م – دلهي – الهند

(9) النظام الاقتصادي العادل .

يعلن دستور الإسلام أن ما في الحياة من خيرات وثروات منفعة مشتركة للناس جميعا وأن الناس قوامون على ما في أيديهم من أموال وخلفا فيها فليست ملكية الفرد ملكية حقيقية إنما هي ملكية تصرف وانتفاع ضمن قيود وشروط معينة ، يعني أن التملك وظيفة اجتماعية فقط تقيد حرية التصرف فيه بمصلحة المجتمع وفائدة الأمة وأن منفعة المال ، في نظر الإسلام عائدة للشعب كله فلا يتصرف فرد من الثروة العامة والخاصة بما يضر المجموع ، ويقول القرآن :”هو الذي خلق لكم ما الأرض جميعا” ، “وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه” ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما” فإنه يجب على صاحب المال أن يتصرف فيه كما يتفق القانون الدستوري وعلى غيره أن لا يتدخل في وظيفة صاحل المال ما لم يخالف الدستور ويتصرف بما يضر الأمة والحكومة ، وقد رتب الإسلام على هذه النظرية الواسعة خمسة مبادئ هامة متكافلة ومتكاملة تتكفل صيانة الثروات وتأمين العدالة الاجتماعية بين مختلف الطبقات في الناس :

1 – العمل حق واجب على كل مستطيع .

2 – صنع تكدس الثروات في أيدي أفراد قليلين .

3 – الحجر على الذين يسيئون التصرف في الثروات .

4 – إخراج جزء من الأموال الخاصة لإقامة العدالة الاجتماعية في المجتمع .

5 – حق الدولة في أخذ ما تحتاج إليه من أموال في داخل الدولة وخارجها .

أما المبدأ الأول فما دامت خيرات الأرض ملكا للناس جميعا فليسع وراءها كل قادر على السعي ولا يصح لأي فرد أن يكون عالة على المجتمع يتكفف الناس ويسألهم وهو قادر على العمل وواجد له ولا يكتفي الإسلام بالدعوة إلى ضرورة العمل فقط بل يعلن تكريمه واحترامه له : يقول رسول الإسلام :”إن أفضل الكسب كسب الرجل من يده” ، “إن الله يحب العبد المحترف ويكره العبد البطال” ، ويسمو الإسلام بالعمل إلى أن يجعله جهادا في سبيل صيانه النفس والأسرة ولا يقل فضلا عن الجهاد بالسيف ذودا عن سيادة الأمة والدولة .

مر رجل جلد قوي على رسول الله وهو مع عدد من الصحابة فقال أحدهم مشيرا إليه ويح هذا لو كان جلده وقوته في سبيل الله فقال عليه السلام “إن كان خرج يسعى على أولاد صغار فهو في سبيل الله وإن كان على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله” هكذا يدفع الإسلام الناس جميعا إلى العمل ولا يسوغ أن يرى فئة من أبنائه كسالى يتساقطون على فتات الموائد ويستجدون صدقات الأغنياء بل لا يجيزان ينقطع إنسان حتى في سبيل العبادة في المساجد وغيرها جهلا بأن العمل في الجهة المذكورة من أفضل العبادات وهذا عمر بن الخطاب يرى أناسا في المسجد يقيمون فيه فيسأل عن حالهم فيقولون :”انقطعنا للعبادة” فيقول لهم : من أين تأكلون ؟ قالوا “نتوكل على الله” فضربهم : اذهبوا واسعوا في طلب الرزق فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة .

أما المبدأ الثاني فقد أعلنه الإسلام بصراحة حين تحدث عن اشتراك فقراء المهاجرين في أموال الأغنياء بقوله “كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم ” ، وتحقيقا لهذا المبدأ جاء الإسلام بنظام الإرث يقضي على الثروات الضخمة فيقسمها إلى ملكيات صغيرة أو متوسطة ومن أجل هذا منع الإسلام كل ما يؤدي إلى الشراء الفاحش و التفاوت العظيم بين أفراد الشعب في الثروة والغنى فهو يمنع الربا والقمار والغش والغصب والسرقة كما يمنع الاحتكار بمختلف أنواعه ، احتكار القوت واحتكار السلع واحتكار الصناعات ، لأن ذلك كله يؤدي إلى تكدس ثروات واسعة في أيدي قلة من أبناء الشعب فلا تبقى الملكية وظيفة اجتماعية يراد بها خير الشعب ومصلحته وليس ادعى على الشقاء ولا ابعث للعداء ولا أسرع في إشعال نار الفتنة بين الشعوب من أن يتجمع المال في أيدي فئة قليلة ويحرم منه جمهور من الناس ، وقد أعلن الإسلام في دستوره منذ نشأته أن لا تستقيم الحياة في المجتمع الإنساني حين يكون لبعض أفراده قصور شامخة ودور واسعة وبجانبهم ، وفي محيطهم عشرات ومئات يتسكعون في الطرقات لا يجدون السكنى ولا المأوى ، فكيف يصلح أمر أمة يعد الذين يملكون عشرات القرى بعدد الأصابع ولا يحصى عدد الذين لا يملكون ذراعا من أرض ولا حجرا من بيت ومن هنا فليحمل الرأسمالية المعروفة اليوم والديمقراطية المزعومة و الديكتاتورية المشئومة وزرين ، فوزر التسبب لوجود فرق الحادية هدامة مادية بل ووزر تأجيج العالم الإنساني في سعير الحرب المدمرة .

وأما المبدأ الثالث فهو الحجر على الذين يسيئون التصرف في الثروات فهناك صبيان لا يحسنون التصرف في الأموال وهناك مجانين ومعتوهين ، الذين لا يؤمن عليهم أن يغبنوا في المعاملات وهناك مبذرون ومسرفون الذين ينفقون الأموال الطائلة في أمور غير مهمة ولا ضرورية فإن مثل هؤلاء يجب أن تمنعهم الحكومة من التصرف في ثرواتهم ويعلن دستور الإسلام :

“ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما” وفي رأي كثير من فقهاء الإسلام والقانونيين ، إن المبذرين في الحلال والمتوسعين في الإنفاق على أنفسهم بما يخرج على الاعتدال يحب الحجر عليهم أيضا .

والحجر على هؤلاء ليس إلا ناشئا عن حق الدولة في الإشراف على التصرف في الثروات الخاصة وفق مصلحة الشعب لأن الثروة حتى الخاصة منها منفعة مشتركة بين الناس جميعا ، والحكومة وكيلة عنهم لا جرم إن كان من الواجب أن تحول دون إسراف المبذرين حتى لا تبدد ثروة الأمة .

والمبدأ الرابع هو إخراج جزء من الأموال الخاصة لإقامة العدالة الاجتماعية في المجتمع فهذا المال الذي حصل عليه الرجل بجهده وعمله ولم يسلك في جمعه طريقا شائنا وما استأثر به دون الناس وما أسرف في إنفاقه على ملذاته ومنافعه وبقيت منه بقية إلى نهاية العام ، يجب إخراج جزء منه ليصرف في رفع مستوى معيشة الشعب وقضاء مصالحه العامة وتوفير العيش والطمأنينة للبائسين والمحتاجين ، وهذا ما يسميه الإسلام بالزكاة التي يعتبرها ركنا ثالثا ، من أركان ويكل الدستور أمر إخراجها من الأموال إلى من هي بيده ، فإذا امتنع عن أدائها أخذتها الحكومة منه قهرا وجاز لها أن تعلن الحرب على أهل بلدة أو جماعة امتنعوا عن تنفيذ هذا الركن الأساسي وحاولوا التخلص من هذا التكليف .

أما الزكاة فإنها ضريبة مالية اجتماعية في أموال الموسرين يجب أن تصرف في وجوه معينة مذكورة في القرآن ترجع كلها إلى ما ذكرناه من تحقيق العدالة الاجتماعية وتأمين المصالح العامة وليست هي كل ما يجب في أموال الأغنياء وليست ذلك الجزء المعين الذي لا يجوز تجاوزه ، يل يقرر الإسلام أن الزكاة إذا لم تكف لسد حاجة الفقراء البائسين ورفع مستواهم كان للحكومة أن تأخذ من الأموال الخاصة ما تحقق به العدالة الاجتماعية في جميع الطبقات من الرعية فيسود النظام ويزول الحقد ويذهب الجفاء ويزيد الإخاء ويتم الوئام ويتحقق الأمن والسلام ويظهر الحب ووفاء .

فأما المبدأ الخامس فهو حق الحكومة في أخذ ما تحتاج إليه من أموال الناس لصيانة السلامة العامة فإذا حل بالبلاد عدو أو وباء وليس في خزينة الحكومة ما يكفي لتجهيز الجيوش وتأمين الثغور ودفع عاديات النكبات كان لها أن تأخذ من الثروات الخاصة من كل على قدر ثروته ، حتى تندفع الحاجة ويزول الخطر .

هذه المبادئ الخمسة التي يعلنها دستور الإسلام بقوة ووضوح هي نتيجة لراية في وظيفة المال الاجتماعية ووجوب استعماله في مصلحة الشعب وضمن حدود المصلحة العامة وهي مبادئ طبقت في حياة رسول الله وبعده فوفرت للمسلمين حياة ملؤها الكرامة وألفت بين قلوب الأغنياء والفقراء وعملت على تأمين العيش الكريم لكل مواطن بما يتناسب مع كرامته الإنسانية التي أعلنها القرآن بقوله : “ولقد كرمنا بني آدم”.

ونفق الآن وقفة يسيرة في مفترق الطرق لنبحث عن أثر هذه المبادئء في الأمة الإسلامية وفي الحكومات الإسلامية ، اليوم فنراها في غفلة ظاهرة عنها بل أن بعض الناس ينكر أو يشك في أن يكون في دستور الإسلام علاج ناجح لهذه الحالة السيئة ، أمم تعاني من الظلم الاجتماعي ما تأباه المروات والديانات وتتفاوت الثروات فيما بينها تفاوتا بينا في كثير من الأحيان وتذهب يمينا وشمالا لتبحث عن العلاج الناجع لهذه الحالة المؤلمة المحزنة المؤدية إلى خطورة سيئة العواقب ويخرب المفكرون رؤوسهم وأدمغتهم لاختراع قانون وتقعيد قاعدة يتكفل البشر في العالم الحائر الرفاهية والمساواة الإنسانية ويزرع فيهم بذور المودة ويخلص العالم من سعير الحروب هذا العجب العجاب !! أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها! .