ضرورة “الاعتدال” في شؤون الحياة كلها

الخليج اليوم – قضايا انسانية –5/11/1985

إن “الاعتدال” المقصود في نظر الإسلام وفي المفهوم الفطري الذي يتمشى مع قانون الطبيعة في شؤون الكون كلها هو عدم الإفراط والتفريط في أي الحياة المادية والمعنوية ، وبعبارة أخرى إعطاء كل ذي حق حقه بدون إسراف ولا تقتير ، ولا بزيادة ونقصان . وقد حرص الإسلام على “المثالية” في جميع تصرفات الإنسان وأقواله وأفعاله وأفكاره وميوله .

الاعتدال وسيلة “المثالية”

وإنما تتحقق المثالية المطلوبة في حياة الإنسان باتباع نظام الاعتدال في شؤونه كلها ، وإليه يشير الحديث النبوي “خير الأمور وأوسطها” .ودل على ذلك قول الله تعالى في صفات المؤمنين الصادقين : “والذي إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ” (الفرقان : 67) . وقال الله سبحانه وتعالى أيضا ، “كوا واشربوا ولا تسربوا إنه لا يحب المسرفين” (الأعراف : 31) .وبهذا النظام يحرص الإسلام على إبلاغ الإنسان مستوى الكمال المقدور له بتناسق وفي جميع شؤونه فلا يقبل على جانب واحد أو عدة جوانب ويبلغ فيها المستوى العالي من الكمال بينما يهمل الجوانب الأخرى حتى ينزل فيها إلى دون المستوى المطلوب ، فإن مثله مثل من يقوي يديه ويترك سائر أعضائه هزيلة ضعيفة .

ويتحقق هذا الهدف المنشود من الإسلام باتباع المنهاج الذي جاء به رسول الإسلام محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم . ولذلك أمرنا الله تعالى بالتأسي به فقال : ” لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة” (الأحزاب : 21 ) . وعلى هذا الأساس فهم الصحابة الكرام مثالية الإسلام واعتداله ، فلم تأسرهم عبادة واحدة ولم تقيدهم عادة ، وإنما تقبلوا جميع العبادات والأحوال ، وبلغوا فيها المستوى العالي من الكمال فلم يحبسوا نفوسهم في مكان ولا على نوع من العبادات ولا على نمط معين من الأعمال ، وإنما باشروا العلم يجلسون معلمين ومتعلمين ، وعند الجهاد يقاتلون ، وعند الشدائد والمصائب يواسون ويساعدون .

الاعتدال مطلوب حتى في العبادات !

فلا ينبغي للمسلم أن يرهق نفسه أو يؤذي جسده ، حتى في العبادات . ويدل على ذلك الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من أنس رضي الله عنه قال : جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته ، فلما أخبروا ….قالوا : أين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، قال أحدهم : أما أنا فأصلي الليل أبدا . وقال الآخر : وأنا أصوم الدهر ولا أفطر . وقال الآخر : وأنا أعتزل النساء … فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أنتم الذين قلتم كذا وكذا ! أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له . ولكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني ” .

الحرج في شرع الإسلام مرفوع

وليس من مناهج الإسلام ووسائله لبلوغ الكمال وتحقيق الآمال ، تعذيب الجسد وتحميله مالا يطاق ، والمطلوب لبلوغ الكمال تقوى الله تعالى وليس تحريم الطيبات وحرمان الجسد منها . فقال تعالى : “يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ” (المائدة : 87) . وقال : “وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون” (المائدة : 88) .

وهكذا رفع الإسلام الحرج في جميع تشريعاته لأنه يخالف الفطرة والواقعية والمثالية في نظرة الإسلام ، فقال خالق البشري والقوي : “وما جعل عليكم في الدين من حرج” (الحج : 78) . وقال أيضا : “لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ” (البقرة : 286) . وبهذا المنهاج أوجد النظام الإسلامي من أتباعه “أمة وسطا” وهي التي وصفها القرآن الكريم : “خير أمة أخرجت للناس” (آل عمران : 110) . فإن الخروج عن نهج الاعتدال ، والانحياز إلى الإفراط والتفريط يخرجها من دائرة “الخيرية” التي هي من أهم الصفات اللازمة لأمة الإسلام ، أفلا تعقلون ؟ ! ..