ضرورة إصلاح النفس قبل إصلاح الغير

الخليج اليوم – قضايا إسلامية الاثنين 11-أغسطس-1986 م

يقول الدستور الإلهي الخالد : “والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر” ، قد لخصت السورة عوامل إصلاح النفس أي إصلاح الإنسان لذاته في أمرين : الإيمان والعمل الصالح ، حيث قال : “إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات” ، وأن الإيمان هو ترسيخ العقيدة الربانية في أعماق النفس الإنسانية ، فإذا تغلغلت هذه العقيدة في أعماق النفس يحدث في الإنسان شعور بالمسؤولية أمام خالقه ، علام الغيوب ، وأقرب إليه من حبل الوريد ، وهذا الشعور هو الذي يدفع الإنسان المؤمن إلى مراقبة الله تعالى في كل حركاته وسكناته ، ويحاسب نفسه قبل أن يقدم على أي عمل يقوم به فيكون عمله صالحا ومرضيا لربه وضميره وراجي الثواب والرضا عند ربه الواحد القهار ، ويندفع المؤمن إلى تطبيق المنهج الرباني على نفسه وعلى غيره بصدق النية ورغبة خالصة لوجه الله بدون رياء نفاق ، وبهذه المعالم يتم إصلاح ذاته ونفسه ويستعد لتحمل مسؤولية إصلاح غيره .

وفي مقدمة عوامل إصلاح الإنسان لغيره ، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر “وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر” ، وفي هذه المرحلة من تكوين شخصية المسلم المؤمن الصالح تندفع نفسه إلى دعوة الغير إلى قبول الحق وعمل الخير والاستقامة على الصبر ، ويكون كذلك قدوة صالحة ونموذجا صالحا للغير ، في سلوكه وأخلاقه ومعاملاته وأن توطين النفس على الدعوة إلى الله وتعويدها على الصبر والثبات من أهم عوامل الاستقامة على الحق ، ولهذا يتوجب على الإنسان الناجح في مجالات الحياة التمسك بخلق الصبر والثبات في سبيل عقيدته ودعوته ورسالته ، وكل من خرج عن هذا المنهج قد نال الخسران المبين .

المنهج الإسلامي لإصلاح النفس

إن تكوين الشخصية الإنسانية يتم من وجهة نظر الإسلام ، بعاملين هامين ، هما إصلاح الإنسان لذاته ثم إصلاح غيره ، وأن الله سبحانه وتعالى حين خلق النفس الإنسانية أوجد فيها استعدادات فطرية ، إذا هذبها الإنسان بالإيمان الصادق والعمل الصالح والتربية المناسبة نشأت النفس على اتباع الخير والهدى وتدرجت بالتوازن والاعتدال في مدارج الكمال الروحي والمادي ، وإذا أهملها تراكمت عليها أدران العادات الذميمة وأوساخ الأعمال الفاسدة فتنشأ على الشر والفساد والانحراف عن الطريق المستقيم .

أما النفس الإنسانية فلها بحكم فطرتها قابلية لقبول الخير والشر ولها استعداد لقبول الحق والباطل وهذا الاستعداد الطبيعي الاختياري هو مدار التكليف في الشرع الإسلامي ، وإذا لم يكن لها الاختيار فلا معنى لأن يترقب العقاب والثواب على أعمالها ، وأن الحساب على أساس الفعل الاختياري الذي دخل وسع الإنسان وطاقته وإرادته كما صرح به الخالق سبحانه وتعالى بقوله : “لا يكلف الله نفسا إلا وسعها” .

يقول الرب عز وجل مبينا طبيعة النفس الإنسانية وأعمالها : “ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها ، قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها” ، ويقول الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم مؤكدا طبيعة النفس في قبول الحق والباطل واستعدادها للإقبال على الخير والشر حسب العادات والبيئات والتربية النفسية ، في حديث رواه البخاري في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : “كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أويمجسانه أوينصرانه ” ، وما دامن النفس الإنسانية تحمل فيها الاستعدادات الفطرية لقبول الخير والشر فإن التربية والتهذيب والتثقيف هو الذي يوجهها إلى مدارج الصلاح أو الفساد ، وإلى طريق النجاح أو الهلاك في الحياة الدنيا والأخرى ، فيكون الإنسان فالحا أو خائبا ” قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها” .

الإنسان المتكامل

لقد جمع الله سبحانه وتعالى جميع عناصر المنهج المتكامل لتكوين الإنسان شخصيته الكاملة الفائزة بسعادتي الدارين والناجحة في تحقيق حياة متكاملة بدون خسران وضياع وفشل ، في سورة قصيرة ، قليلة آياتها وكثيرة معانيها ، وسهلة القرآن والفهم ، وجمة الفوائد والعظات في معترك الحياة في كل زمان ومكان ، ألا وخي سورة العصر ، التي أقسم فيها خالق البشر بالعصر الذي تدور عجلة الحياة الإنسانية آثار الأمم السابقة واللاحقة من خسارة وضياع وندامة ، ونجاة وفوز وسعادة ، وكل هذا وذاك ماثل أمام الإنسان العاقل الذي له إلمام بتاريخ البشرية عبرر الدهور والعصور ، فلينظر إلى ما فعلته العصو بأسلافه ، من خسارة إذا لم يأخذ بأسباب النجاح ، وسعادة إذا ما أخذ بأسباب الصلاح والفوز ، ثم فصلت السورة ذذلك المنهج الرباني المتكامل الموصل إلى شاطئ النجاة والمبعد عن هاوية السقوط في الويل والثبور والخسران حيث لا ينفع الندم والعويل بعد فوات الأوان فيقول الله تعالى : “والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ” .