حكم “التسعير الجبري” في التشريع الإسلامي

الخليج اليوم – قضايا انسانية –28/10/1985

اختلف الفقهاء المسلمون في تنفيذ نظام التسعير الجبري ، في الأحوال الخاصة الطارئة وفي الأحوال العامة العادية . فالتسعير الجبري في الأوقات غير العادية ، مثل حدوث حالات طارئة في البلاد ، من مجاعة وجفاف ، أو وباء أو اضطراب اقتصادي أو نحو ذلك ، جائز في التشريع الإسلامي ، وخاصة حينما يمتنع التجار الجشعون ، عن بين السلع الضرورية لعامة الناس إلا بزيادة من الثمن المعروف لدى الناس والمعقول من حيث النفع العائد على التاجر .

وكذلك ينفذ التسعير حينما تنخفض الأسعار إلى الحضيض دون المستوى العادي ، حتى لا يضار التجار والصناع ، الأمر الذي يترتب عليه إضرار المجتمع كله . وأن هاتين المادتين من النظام الاقتصادي في الفقه الإسلامي ، وإن ادعى الغرب ، ابتكارهما مع أنهم أخذوهما أو سرقوهما – مع قليل من الشدة في مواجهة ذلك الادعاء قد وضعهما الشارع الإسلامي ونفذهما منذ أكثر من ثلاثة عشر قرن ، وكتب في هذه المسألة أهل الفقه من العلماء المسلمين وأصحاب المؤلفات في القانون التجاري في النظام الإسلامي من سبعة قرون ، وأن كتب فقه الإسلام دليل مادي على ذلك . وقد نفذ هذا النظام سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، الخليفة الثاني لرسول الإسلام محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، قبل أن يفكر فيه ويدرك مغزاة أصحاب النظام والأوضاع الاقتصادية الغربية بقرون طوال .

أما في الحالة العادية فقد أكد الفقهاء وعدم جواز فرض نظام التسعير الجبري ، لأن معناه حينذاك إكراه التجار على التصرف في سلعهم بغير ما تطيب به نفوسهم ، لأن في ذلك ظلم مناف لوظيفته الملكية وحرية التصرف مع أن أي تاجر لا يستطيع أن يرفع ثمن بضاعة زملائه وذلك ، لو فعل ذلك لتركه الناس واتجهوا إلى زملائه مما يترتب عليه كساد تجارته وإغلاق متجره .

وهذه التفرقة بين الحالة العادية والحالة غير العادية واضحة وواقعة في أوقات الحروب وما بعدها لأن جهاز الإنتاج في مثل هذه الحالة يتجه لإنتاج أدوات الحرب ، ولإمداد الجيوش . بما تحتاج إليه من ذخائر وأسلحة وملابس وأغذية وغيرها ، علاوة على ذلك ، فإن الحروب تعوق تصدير السلع والآلات الصناعية وتبادل الأدوات الضرورية بين الدول والأسواق العالمية بسهولة وبسولة ، فالضرورات تبيح المخطورات .

وأن تنفيذ نظام التسعير الجبري في الظروف الطارئة في أي زمان ومكان ، يمنع تكدس الثروات في أيادي القلة ، ويتحول ذلك النظام ، في الواقع ، نعمة وبركة على الشعب والوطن . . ويأتي هذا البند في الفقه الإسلامي بجوار مجموعة أخرى مماثلة من الأنظمة الاقتصادية في التشريع الإسلامي ، مثل “الحجر” القانوني على المبذرين والقاصرين في ثروة الأمة ، وحق الحكومة للأخذ من الأموال الخاصة بما يحتاج إليه المصلحة العامة ، وحق الحكومة كذلك من الإشراف والتصرف على الأموال العامة لمصلحة الشعب ، مثل دخول العدو إلى البلاد ، وانتشار الأوبئة فيها أو نزول الكوارث الطبيعية مثل الفيضانات المدمرة والأعاصير المهلكة والزلازل الفتاكة ، وفي هذه إذا رأت الحكومة أن ما في الخزينة العامة للدولة لا يكفي لدفع عاديات النكبات وتأمين الثغور عن العدو الغازي ، ولتجهيز الجيوش الكافية كان لها أن تأخذ من الثروات الخاصة من أفراد الشعب من كل على قدر طاقته وثروته حتى تندفع الحاجة ويزول الخطر .

وقد طبقت هذه الوظيفة المالية في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده فوفرت للمسلمين ودولتهم حياة ملؤها الكرامة والعزة والطمأنينة وألفت بين قلوب الأغنياء والفقراء ، وساعدت على تأمين العيش الكريم لكل مواطن بما يتناسب مع كرامته الإنسانية التي أعلنها دستور الإسلام بقوله : “ولقد كرمنا بني آدم” .

ويتناول الفقه الإسلامي بتوسع وتفقه بالغين مسألة أخرى تشابه ملابسات تنفيذ “التسعير الجبري” بل تفوقها بعض الاعتبارات وهي مسألة الحجر على الذين يسيئون التصرف في الثروات ، فهناك صبيان لا يحسنون التصرف في الأموال وهناك معتوهون الذين لا يؤمن عليهم أن يغبنوا في المعاملات وهناك مبذرون ومسرفون ، ينفقون الأموال الطائلة في أمور غير مهمة وضرورية فإن مثل هؤلاء يجب أن تمنعهم الحكومة من التصرف في ثرواتهم ، موافقا لمادة دستور الإسلام القائلة “ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما” .

وفي رأي كثير من فقهاء الإسلام والقانونيين أن المبذرين في الحلال والمتوسعين في الإنفاق بما يخرج على الاعتدال المطلوب يحب الحجر عليهم أيضا . وحق الدولة في الحجر على هؤلاء ليس إلا ناشئا عن حق الدولة في الإشراف على التصرف في الثروات الخاصة وفق مصلحة الشعب لأن الثروة حتى الخاصة منها منفعة مشتركة بين الناس جميعا والحكومة وكيلة عنهم ، فتقوم بالحيلولة دون إسراف المبذرين حتى لا تبدد ثروات الأمة ، وقد أنعم الله بها عليها بفيض رحمته ، ويؤكد الإسلام ، في عدة مبادئ وقواعد ثابتة بنصوص القرآن والسنة أن الناس قوامين على ما في أيديهم من أموال وخلفاء فيها ، يتصرفون فيها بمصلحة المجتمع وفائدة الأمة .