العلم والإيمان في ميزان القرآن

الخليج اليوم – قضايا إسلامية الاثنين 20-أبريل-1987 م

إن من المعروف بالضرورة والمعهود حقا وحقيقة ، لدى كل ذي عقل سليم وفهم صحيح ، من أتباع القرآن ومخالفيه في كل زمان ومكان ، أن أول ما نزل من الوحي السماوي على محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم هو أول سورة “العلق” من القرآن الكريم من قوله تعالى :”اقرأ باسم ربك الذي خلق ” إلى قوله “علم الإنسان ما لم يعلم” ، وهذه الآيات الخمس تبين الدعامتين الأساسيتين اللتين يقوم عليهما صرح “الإسلام” الذي هو النظام الإلهي العالمي والذي يقدمه القرآن لكافة الناس نورا وهدى وفرقانا لجميع مجالات الحياة البشرية :وهما :”العلم والإيمان” ، وهذه الآيات الخمس تشرح بكل جلاء ووضوح الارتباط الوثيق بين هاتين الدعامتين وضرورة التلازم والتلاحم والتوافق بينهما لقيام صرح النظام الإسلامي قويما ومستقيما ولأداء مهمته كاملا ولتحقيق غايته واقعا ، فأي خلل في أي جانب من جوانب هاتين الدعامتين أو فتور أو قصور أو كسور سيؤدي حتما إلى اعوجاج الصرح وانهياره في النهاية وبالا وهلاكا على رؤس أصحابه والساكنين فيه والمتلبسين بأجزائه .

وجدير بالاعتبار بإدراك كاف ووعي مرهف أن الآية الأولى في الوحي الأول قد بدأت رسالة السماء الخالدة بالإشارة إلى العلم قبل الإيمان وإن كان مقرونا به ومستلزما له حيث قالت :”اقرأ باسم ربك” فكلمة “اقرأ” تشير إلى “العلم” الذي يحصل وينمو ويزداد بواسطة القراءة أكثر وأحسن وأوطد من سائر وسائل التعلم والتعليم ، وأما كلمة “باسم ربك” فتشير إلى “الإيمان” الذي هو من مستلزمات الربوبية ومقتضيات صفة الرب لأن الإيمان بالخالق الذي خلقه ويربيه والاعتراف بربوبيته وقدرته ونعمته وبالتالي الإقرار قولا وفعلا واعتقادا بتفرده بحق الشكر والعبادة والاستعانة وأن إنكار خالقيته أو ربوبيته أو ألوهيته وكذلك إشراك أحد معه في هذه الأمور التي لا دخل له فيها ولا شركة ولا مساهمة من قريب أو بعيد ، إنما هو ظلم كبير وجهل خطير ولا يليق ولا يناسب ولا يجوز بل لا يحصل ممن له عقل سليم وإدراك قويم لحقائق الأمور .

ومن هذا المنطلق الفطري يمكن لنا إدراك بعض النواحي الإعجازية لتقديم القرآن الحكيم ذكر العلم على الإيمان ، عند ذكر التلازم والترابط بينهما في الآية الأولى في الوحي الأول لأن العلم الصحيح إنما يوصل إلى الإيمان الصحيح وأن معرفة الخالق الرب الرازق القابض على زمام أمور الخلق كلها لتؤدي إلى الإيمان به والتوحيد في ذاته وصفاته وأسمائه ولا يطاوع قلب صاحب هذه المعرفة لإشراك أي مخلوق أو قدرة أو طاقة في ربوبيته أو ألوهيته ولا في صفاته وكماليته ولا في عبادته وطاعاته ، بينما الجهل بهذه الحقائق أو بعض منها أو سوء الفهم به أو الوقوع في الأضاليل أو الأفهام أو وساوس الشيطان ، بسبب عدم الرسوخ في العلم أو نقص في الإخلاص فيه ، يؤدي إلى عدم الإيمان أو إلى خلل فيه ، وجاء العلم مرشدا إلى الإيمان ومقيما له ومصححا عند حدوث الخلل ومكملا له عند النقص فيه ومثبتا له عندما يهتز أو يتزلزل أو يضطرب بأسباب داخلية أو خارجية : “اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق ، اقرأ وربك الأكرم ، الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم” (العلق : 105) .

وتبين هذه المجموعة الأولى من الآيات الخمس من الوحي الأول خمسة أمور تتعلق بالعلم ، وخمسة أمور تتعلق بالإيمان ، وأما الأمور الخمسة الخاصة بالعلم ، فالأول : إشارة إلى الوسيلتين الرئيسيتين لتحصيل العلم القراءة والكتابة حيث أشارت الآية الأولى إلى الوسيلة الأولى باللفظ “اقرأ” وأشارت الآية الرابعة إلى الدعامة الثانية بذكر أداتها الرئيسية الهامة أي “القلم” إذ قالت “الذي علم بالقلم” ، والثاني :إشارة إلى المعلم الحقيقي ألا وهو رب العالمين فتقول الآية :”علم الإنسان ما لم يعلم” والثالث : إشارة إلى أن العلم هو وسيلة الكرامة والعزة وبه صار الإنسان متميزا عن العجماوات والبهائم فيجب عليه الاعتصام به والاعتزاز كما أشار إلى هذه الحقيقة قوله تعالى : “اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم” والرابع : إشارة طريقة تحصيل العلم أي يجب أن يكون باسم الله تعالى ومخلصا له وهادفا إلى استخدامه في اكتساب مرضاته ، لا لأجل الغايات التافهة والأهداف الرذيلة ولا لاستخدامها في طرائق الشيطان وهوى النفس والخامس : إشارة إلى الغاية القصوى من العلم وهي المعرفة عظمة الله عز وجل في خلقه وكائناته والأسرار الكامنة في الطبيعة العلوية والسفلية لكي يزداد بها إيمانه ويرسخ بها علمه ويقول رب العالمين : إنما يخشى الله من عباده العلماء” (فاطر : 28) .

وأما الأمور الخمسة الخالصة بالإيمان فالأول : إشارة إلى أولى خطوات الإيمان فهي معرفة الخلق والإبصار فيه حيث أشارت الآيتان الأولى والثانية إلى ضرورة التفكر في الخلق وأطواره إذ قال : “خلق الإنسان من علق ” ، والثاني : إشارة إلى أعظم أنواع التكريم الرباني للإنسان إذ خلقه وفضله على سائر المخلوقات وأسجد له الملائكة ، والثالث : إشارة إلى ضرورة كون الإيمان قائما على العلم والبصيرة لا بمجرد الظن والوهم أو التقليد الأعمى ، والرابع : ضرورة السعي لتحصيل المزيد من العلم عن الأشياء والتي لا يعرفها لأن العلم الراسخ يزيد الإيمان بالمعلم الحقيقي ، والخامس : إشارة إلى وجوب كل مؤمن أن يقوم بدعوة الناس إلى الإيمان القائم على العلم وإلى العلم المقرون بالإيمان .