العالم الإسلامي والتحدي العقدي (1)

العالم الإسلامي والتحدي العقدي (1)

المسلمون اليوم بين فكي المطاردة والمحاصرة خطورة التحدي العقدي وأسبابه الخفية

الشرق الثلاثاء 1-سبتمبر-1987م

من مفارقات الأمور ومناقضات العصور أن نرى أمة الإسلام في كل مكان في هذا العصر الزاخر بمجريات الأحداث محاصرة بأمواج عن المخاطر ومفحمة بشتى أنواع التحديات ومشغولة بالحروب الداخلية فيما بين فئاتها وجنباتها ، وممزقة بالنظريات والأفكار المشوهة أو المزيفة ، ومن أخطر التحديات التي يواجهها العالم الإسلامي في العصر الحاضر إنما هو التحدي العقدي فما هي أسبابها ووسائلها ؟ ومن هم وراءها وكيف الفكاك من حصاره ؟ .

بداية التحدي العقدي وأسبابه

قبل أن نبحث في بداية التحدي العقدي والغزو الفكري للعالم الإسلامي ، ينبغي أن نقوم بتطواف سريع حوال الدوافع والأسباب الرئيسية التي شجعت الغرب والمستعمرين على القيام بهذا التحدي وشن هذا الغزو بشتى الطرق والوسائل ، ويمكن تلخيص تلك الدوافع والأسباب في أربعة أمور :

السبب الأول : الجهل بحقيقة الإسلام فمقارنته بمسيحية رجال الكنيسة وباباواتها التي كانت سببا في التأخر والانحطاط ومبعثا للفوضى والفرقة في أوربا واضطهاد العلم والعلماء ، فحدثت لدى المثقفين فيها ردود فعل أدت بهم إلى رفض الدين المسيحي وبالتالي التهجم على الأديان جميعا ووصفها بالرجعية والتخلف ، فثار هؤلاء المثقفون المتأخرون على المسيحية التي أصرت على التوقف بمسيرة الإنسان عند حد معين لتبقى لرجال الكنيسة السيطرة على الناس في ابتزاز أموالهم ، وتمردوا على كل ما هو دين ، فعادوا الإسلام أيضا بدون دراسة أو بحث عن حقيقة الدين الإسلامي ، وبدون مقارنة واعية بين التعاليم الإسلامية وبين ما يعرضه رجال الكنيسة المسيحية باسم الدين .

فبينما كان رجال الدين في أوربا يأمرون اتباعه بأن يغمضوا أعينهم عن حقائق الكون ويسلمون لرجال الكنيسة بلا مناقشة حيث كانوا يلقنونهم ما يحلو لهم من الأباطيل والأوهام حتى أن محكمة كنسية أصدرت حكم الإعدام باسم الدين على علماء القائلين بكروية الأرض ودورانها ، فإن الإسلام جعل الحقائق الكونية من جملة المعارف الأصلية ويدعو الإنسان إلى استعمال عقله الذي من الله تعالى عليه للبحث والتفكير لكي يستطيع الوصول إلى معرفة الحقائق مهما كانت صعبة أو بعيدة ، ونعى على الذين لا يستخدمون عقولهم ، وجعل طلب العلم فرضا على كل مسلم ، وكانت أول آية نزلت على رسول الإسلام محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم “اقرأ باسم ربك الذي خلق “.

وكذلك كان لمثقفي الغرب العذر في نبذ المسيحية المحرفة بأيدي رجال الكنيسة إذ كيف يمكن للعقل السليم أن يقبل دعوى الوهية المسيح عيسى بن مريم عليه السلام ؟ وكيف يمكن لفكر العاقل أن يتصور أن الإله لا يملك أن يغفر لبني آدم وهو الذي خلقهم ، فيقدم على التضحية بابنه الوحيد أمام اليهود ، ليخلص البشر من وبال الخطيئة القديمة التي وقع فيها أبوهم منذ آلاف السنين وهو بريئون ؟ وهذا في الوقت الذي يتمتع البابا أو البطريق في الكنيسة بحق الغفران لمن يشاء ويحلل ويحرم الأمور كما يشاء ! .

وأما الإسلام فقد قرر أنه لا واسطة بين العبد وربه وأن الرسل والأنبياء إنما هم عباد الله الذين اختارهم مبشرين ومنذرين ومبلغين لدينه واستنكر بشدة على أصحاب الديانات ما قاموا به من تشويه كتبهم السماوية وتحريف كلماتهم لأغراضهم الشخصية وعاب أكلهم أموال الناس بالباطل والخديعة والافتراء ، وليست في الإسلام طقوس روحية غامضة ومرهقة ، وأقام التوازن بين الروح والمادة في وضوح وبصيرة .

والفرق واضح بين ما كان يعرض باسم الدين في أوروبا وبين حقيقة الإسلام ، ولو نظروا إلى الإسلام بعين التحقيق والإنصاف لعرفوا إنه الدين الوحيد الذي يتلاقى مع العقل والعلم ويتناسب مع الفطرة البشرية السليمة ، ويدفع عن المجتمع البشري أوضار الرذيلة والفساد ويحارب الفقر والمرض ويعمل لتحقيق المساواة بين الناس فلا تفاضل بينهم إلا بالتقوى والعمل الصالح ويضمن حقوق الإنسان كاملة .

وكان الإسلام رائدا وسباقا في مجال العلوم والمعرفة الحديثة بحيث جاءت العلوم الحديثة تثبت بنظريات جديدة ، مابادر القرآن إلى إثباته قبل مئات القرون ، وقد نشأ في كنف الإسلام علماء أفذاذ مهدوا طريق العلم لمن خلفهم وكانت أوربا غارقة في ظلمات الجهل فأخذوا من المسلمين علمهم ونهضتهم .

والسبب الثاني : الخوف من قوة الإسلام والرغبة في الهيمنة على العالم العربي والإسلامي ، وعندما رأى رجال الدين المسيحي في أوربا الحضارة الغربية قد زعزعت أسس العقيدة المسيحية الكنسية التقليدية عند الشعوب الغربية وأخذت تشكك في كل ما يلقنون الناس باسم الدين شاهدوا بوارد الصحوة الإسلامية وأدركوا بدهائهم ومكرهم أن محاسن الإسلام وحقائقه سوف يكون لها تأثير في عقول الناس السليمة ، فخافوا قوة هذا التأثير على زعامتهم الدينية ، ومن ناحية أخرى كان رهبان الغرب وساستهم يعلمون على حد سواء ما تركته الفتوحات الإسلامية الأولى ثم الحروب الصليبية من قوة الإسلام .

نهب ثروات العالم العربي

والسبب الثالث : نهب ثروات العالم العربي والإسلامي واستغلال خيراته وسد طرق التقدم والرفاهية أمامه ، وأن إضعاف الرباط العقدي بين العرب والمسلمين ونشر الضياع الفكري وبث أسباب الفرقة في صفوفهم وتشتيت شملهم ، يساعد على تحقيق رغبة المستعمرين في الغرب والشرق في الاستيلاء على أراضي العرب والمسلمين وثرواتهم واتخاذ بلادهم أسواقا للترويح بضائع الدول الاستعمارية وكما أنها تستطيع أن تشتري الموارد الطبيعية الخام المتوفرة في العالم العربي والإسلامي بأبخس الأثمان ، وهكذا يمكن قتل الصناعة المحلية في كل بلد عربي وإسلامي فبالتالي يبقى العالم العربي والإسلامي في قيادة ركب الحضارة الغربية فاقد الثقة بنفسه ومستجديا مقاييس الأخلاق والعقائد من أحضان الغرب ، بحيث لا تقوم له قائمة ولا تكون له شخصية مستقلة .

والسبب الرابع : هدف التنصير ، فإن حركة التنصير أو التبشير والإرساليات – إن صح هذا التعبير في الاصطلاح العلمي – قد أدركت بطول المراس أن الجهود الضخمة البشرية والإعلامية بل والعسكرية والساسية قد فشلت في تحقيق أهدافها إلا ضئيلا للغاية ، وأن البديل الوحيد عن هذه الجهود المتنوعة الضخمة هو إبعاد المسلمين أولا عن عقيدتهم بطريق بث الوهن والارتباك في تفكيرهم والتشكيك بفائدة ما عندهم من عقيدة وقيم فيفقدون الثقة .

(يتبع)