السر المكنون في الأندلس المفتون

الخليج اليوم – قضايا إسلامية الخميس 27-نوفمبر-1986 م

(دراسة وتحقيق)

إن القرآن الحكيم هو كتاب رب العالمين ، لكافة التوجيهات والإرشادات ، حسب النواميس الفطرية والقوانين الكونية التي وضعها خالق البشر ، بحيث لا تتبدل ولا تتغير وقد رتبها على نظام الأسباب والمسببات الي لا تتخلف نتائجها ولا تتأخر آثارها في مظور القانون البشري في أي زمان ومكان وفي حق أي قوم كان ، وأن نهضة الأقوام وقيادتهم وانتكاستهم تدور مع ذلك القانون البشري الكوني في إطار القواعد الثلاث :

1 – فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله” (الروم : 30) .

2 – “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” (الرعد : 11) .

3 – “وتلك الأيام نداولها بين الناس” (آل عمران : 140) .

انطباعاتي في الأندلس

لقد ساعدني الحظ وحالفني التوفيق ، لتحقيق أمنية كانت تدور في قلبي منذ أن جذب نظري وشد انتباهي تاريخ الأندلس ، من خلال كتب عديدة ومقالات ودراسات وقصائد كثيرة بأيدي المؤرخين والأدباء والشعراء ف يمختلف الأزمنة والأماكن من عهده الذهبي الذي كان فيه يرسل النور والعرفان إلى أرجاء أوروبا كلها وينبعث منه شعاع الحضارة الإنسانية القائمة على العلوم والمعارف إلى إطار العالم العربي كله ، إلى عهده النكسى ، ثم بدأ الكتاب والشعراء يبكون ويتباكون على تلك الضالة تحت ألقاب وشعارات شتى وبعضها جوهري وبعضها سطحي ، ولم يعد كلها أو جلها إلا البكاء أو التباكي على البواقي من قصر الحمراء والزهراء وجامع قرطبة ومدينة غرناطة وأشبيلية العظمى ، وغيرها او التفاخر بأمجاد حضاراتها وأفذاذ علمائها وأشجار حدائقها الغناء ، وزخارف قصورها الشامخة “وجنة العريف” الرائعة .

وقد صارت أمنيتي حقيقة عندما زرت أسبانيا ، في رحلة علمية ونظرية – إن صح هذا التعبير – عام 1404 هـ (1984م) ومنذ أن وضعت قدمي في أرض الأندلس المعروف الآن جغرافيا شبه جزيرة أيبيريا ، ويطلق عليها أيضا سياسيا ، أسبانيا لفتت انتباهي ومشاعر قلبي وذهني وحواس جوارحي كلها تلك الابهات والزخارف والنقوش التي جذبت وهضمت القناطير من الذهب والفضة ، وتلك الممرات المرمرية والدهاليز المزركشة والسراديب المنمقة وأما حديقتها الزاهرة الزاهية فهي “جنة العريف” التي سجلها التاريخ بكل فخر وزهو وعلو في سجل عظمة حضارة الأندلس والأندلسيين ، وأمام ملامح هذه الحضارة الأنيقة العريقة في التاريخ باسم : الحضارة الإسلامية، شدني خاطري في قلبي أو فكر في ذهني إلى الدوافع المحركة لهذه الابهات والغايات المنشودة منها والنتائج المترتبة عليها ، ثم تسربت إلى ذهني الحائر ، بدون إذن مني ولا إمهال ، هذه التساؤلات العويصة العميقة الشائكة فهل استوفت تلك الحضارة البنائية الغنائية مقومات حضارة الإسلام التي وضع أسسها ورفع قواعدها الرسول والخلفاء الراشدين الذين فتحوا القلوب والبلاد وشيدوا الأمجاد وأناروا الدنيا ، وهل قامت على دعائم روحية قيم أخلاقية ؟ وهل تحررت من دوافع الغرائز النفسية والأهواء الشخصية وأخيرا ما هي أسباب ضياعها وتوقف أشعاعها والسر الكامن في احتفاظ الغرب السالب بمظاهرها وأنقاضها ؟ .

تاريخ الإشسلام في الأندلس

كان دخول الإسلام الأندلس في عام 756م نقطة تحول هام وخطير في تاريخ الإنسانية كلها ، ومنذ ذلك العهد شهدت القارة الأوربية بأسرها قبسات مضيئة ومعالم مشعة من العلوم والمعارف والآداب والأخلاق ، والقيم والمبادئ التي لم يشهد التاريخ لها مثيلا منذ الخليقة ، وكانت الجامعات والمراكز والمعاهد العلمية في الأندلس والنهضة العلمية والاكتشافية والاختراقية التي قادها العلماء المسلمون من قواعد قرطبة وغرناطة وأشبيلية وغيرها من المدن الكبرى في الأندلس ، مراكز الإشعاع الروحي والعلمي والحضاري والأدبي واللغوي لأوروبا التي كانت في تلك الفترة تتخبط في التخلف العقدي بسبب قبضة الرهبنة الشديدة التأخر الثقافي والعلمي بسبب قلة المراكز العلمية وكثرة بواعث الجهل والجمود من الشعوذة والخرافات والنعرات العنصرية والقومية والسلالية وغيرها ، ومن مفارقات الأقدار ، ومناقضات الأطوار ومن سخريات الأمور ومذهلات العقول أن يصدر ذلك الغرب تلك المهلكات والمخلفات إلى بلاد المسلمين ومجتمعاتهم كأنها نشأت ونمت وترعرعت بأيديهم بين ظهرانيهم ثم استورد منهم ومن مراكز حضارتهم مقومات النهضة ومراجع العلوم وأسس الاختراعات والاكتشافات فطورها وصبغها بصبغة أوروبية ثم صدرها إلى العالم عامة وإلى بلاد المسلمين بصفة خاصة كأنها من صنع أوروبا الخاص ومسخ عن وجهها صبغة الأصالة كلية ، حتى صار المسلمون والعالم كله في جهل تام أو غفلة كاملة عن جذور تلك العلوم والمعارف وبذور هذه المنتجات الفكرية والحضارية ذات الصبغة الأوروبية .

وجدير بالذكر أن معظم المدن التي زرتها في الأندلس ، مثل : غرناطة ، وقرطبة ، وأشبيلية مليئة بالآثار والمعالم والمساجد والقلاع والمباني الفخمة الرائعة التي بناها المسلمون إبان حكمهم فيها بل وأن تلك المعالم لا تزال تحتفظ بصبغتها الأصلية من الفنون والأشكال والملامح العربية الإسلامية أو يبلغ عدد المسلمين في أسبانيا اليوم ، حوالي مائة وخمسين ألف مسلم ، ويتنمون إلى أصول عربية منحدرة من المغرب العربي والشام ومصر وغيرها ويرجع الفضل الأول في نشر الإسلام في أوروبا – كما يروي التاريخ – إلى خليفتين أمويين في الأندلس والأول هو مؤسس الدولة الأموية في الأندلس عام 756م ، عبد الرحمن الأول المعروف باسم : عبد الرحمن الداخل ، والثاني هو الخليفة الأموي في الأندلس خلال الفترة من عام 929 إلى 961م ، عبد الرحمن الثالث الذي عرف باسم : عبد الرحمن الناصر وقد اشتهر في التاريخ أيضا بلقب “صقر قريش” .

مقومات الحضارة الإسلامية

لقد عرفت من مفاهيم ومعاني ومواقع الآيات القرآنية الثلاث التي ذكرناها في مقدمة المقال أن لكل حضارة ومدنية وظاهرة اجتماعية ذات شخصية او هوية متميزة أصولا ومبادئ وأسس وقواعد فطرية الهية لا تتخلف وتتبدل باختلاف الأزمنة والأمكنة وبتغير الأسماء والألقاب والانتماءات المظهرية أو الشكلية ، وفي مقدمتها مطابقتها ومسايرتها بالنواميس الفطرية والقوانين الكونية ، وفي مقدمة القوانين الفطرية السليمة التوازين والاعتدال وأن التطرف أو الإخلال بهذا الميزان يؤدي إلى الانهيار أو الانفجار أو الانكسار ، وأن طغيان المادة على الروح أو الإسراف في الإنفاق أكثر من الكسب أو الاغترار بالقوة والسيطرة أكثر من اللازم يجلب المهالك لصاحبه أو لأصحابه وكذلك فإن غالب المظهر على الجوهر والفروع على الأصول والغرائز على القيم ، مخالف للفطرة ومسبب للطفرة المدمرة ، ومخالفة للمنهج الإسلامي للحضارة .

ومن المقومات الأساسية أيضا للحضارة الإسلامية ، التمسك بالقيم الإسلامية والالتزام بمبادئها وأصولها في حياة الأفراد والجماعات ولا يكفي الانتماء الرسمي أو الانتساب الرمزي ، أو الاحتفاظ ببعض الشعارات أو الشارات أو التفاخر بالأسماء والألقاب الإنسانية إلى الإسلام ، فإن حضارات القلاع والمباني ذات النقوش القرآنية ورموز المحارين والمنابر والمنائر وحتى المساجد والجامعات العلمية إذا لم تكن مبنية لأغراض نبيلة وبنية صادقة ولم تكن وراءها دعائم روحية وقيم إنسانية بل مجرد زخارف ورسوم ونقوش ، إنما هي حضارة واهية خاوية على عروشها وشماتة لأعدائها وإلى هذه الحقيقة الكبرى قد أشار القرآن الكريم :”إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ” فإن تغير الرموز الظاهرية لا تؤدي إلى تحويل الضعف إلى قوة أو نقل قوم من هوان إلى عزة ومن استعمار إلى استقلال ومن هبوط حضاري إلى تقدم حضاري ، وهذا هو القانون الطبيعي الذي هو بعينه القانون الإسلامي ومن مقومات الحضارة الإسلامية أيضا الانتباه واليقظة تجاه أسباب الانهيار والانتكاس من الداخل أو الخارج ولهذا القرآن يحذر المسلمين المؤمنين دائما من الغفلة والاغترار ويدعوهم إلى التمسك بالصبر والتعاون والتضامن في سبيل التماسك الداخلي لئلا يتسرب وهن الخلاف وخطر الانشقاق إلى صفوفهم ، فإن الاختلاف الداخلي يشتت القلوب ويغرق بين الأخوة ويوهن كيان المجتمع ويفتح الطريق أمام الأعداء للتغلغل إلى معاقلهم والتحكم في مصائرهم ووالسطو على حقوقهم وبالتالي تحطيم كيانهم وتقطيع أوصالهم وامتصاص ثرواتهم وتبديد طاقاتهم وتفنيد حضارتهم وتشويه سمعتهم ، وبالاختلاف الداخلي بسبب المآرب الشخصي لأجل الجشع النفسي تسرب الوهن والضعف إلى نفوس القائمين على شؤون تلك الحضارة ومعالمها ، وتشتت شملهم وتفرق جمعهم وذهبت ريحهم وضعفت شوكتهم أمام الأعداء المتربصين .

بعض الأسرار الدفينة في قصة الأندلس الحزينة

بينما كان الأندلس هو الفردوس المفقود في تصور البعض ، فإنه في الواقع فتنة اختبار وابتلاء للمسلمين ، بقصوره الشامخة وحدائقه الغناءة وقلاعه المنيعة ، ومدنه الرائعة البديعة مثل غرناطة وقرطبة وأشبيلية ، ذات لوحات خلابة من المناظر الطبيعية من الأشجار الباسقة وبساتين خضراء وأنهار وقنوات وجداول جارية ، وبمراكز العلوم والفنون والجوامع والمعاهد والمدارس التي كانت ترسل النور والعرفان إلى أنحاء أوروبا كلها ، فاغتر أصحابها بهذه النعم وترفوا وناموا ، ونسوا شكر مانحها وبعدوا عن أهداف القيم وغفلوا عن مقومات الأمم فانقلبت هذه النعم الكبرى إلى نقمة نكراء ! .

ومن جهة أخرى كان الأندلس المذكور ، وهو في لتلك الحالة الزاهية وأهلها في الغفلة الطافية والمتعة العاتية ، فتنة التفات وانتباه للمستعمرين المتربصين ، فانقضوا على ذلك الفردوس المفتون فهاجوا وماجوا في طول البلاد وعرضها واستولوا على مقتنياته الثمينة وقضوا على أمته المفتونة وأبقوا على معالمه الإسلامية وعلقوا الصلبان على المنابر والمحاريب ورفعوا الأجراس على الأبراج والمآذن فأعلنوا وسجلوا بكل افتخار وانتباه :”أبقينا على هذه المعالم من المساجد والقلاع والمآذنو المنابر على هذه الشاكلة ، إظهارا لانتصار المسيحية على الإسلام ” .

هذه بعض الأسرار الكامنة في طيات حضارة الأندلس الفاتنة ، وينبغي للباحث المنصف والدارس الواعي لخلفيات الحضارات وغاياتها ومقوماتها من مصادر ومراجع أصيلة ، بقلب سليم وحس مرهف وبحياد نظيف ، أن يفكر جيدا : هل كانت قصور الأندلس وجنة العريف وأبهات العمائر وزخارفها الفاخرة ونقوشها المرمرية الزاهرة من مظاهر الحضارة الإسلامية الحقة أو كانت بصمة تشويه ووصمة تحريف لمقومات الحضارة الإسلامية الصحيحة وملامحها وغاياتها وأهدافها المنشودة ؟ والله من وراء القصد !

لكل شيء إذا ما تم نقصان ولا يغر بطيب العيش إنسان