الدور الحضاري لأمة الإسلام

الخليج اليوم – قضايا إسلامية – الاثنين 16-يونيو-1986 م

لا يخفى على من له إلمام بتاريخ الحضارات الإنسانية منذ بدء الخليقة على وجه الأرض ، أن الرسالة المحمدية قد منحت للبشرية كلها دستورا حيا لجميع مرافق الحياة وقد أتاح ذلك الدستور مفتاح السعادة لكل من ينضم تحت لوائه سواء في حياته الدنيوية أو الأخروية ، وكان النظام الذي يدعو إليه ذلك الدستور إنما هو نظام يجمع بين خيري الدنيا والآخرة وخيري الروح والمادة وخيري الظاهر والباطن ، وأكبر دليل على ذلك قوله تعالى في وصف المؤمنين الصادقين : “ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، أولئل لهم نصيب مما كسبوا والله سريع الحساب” ، وكذلك قول الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم مخاطبا أمته بكلمة جامعة خالدة : “إن الدنيا خلقت لكم وأنكم خلقتم للآخرة” ، وإن المسلم الصحيح هو الذي يجمع بين الانتفاع بمرافق الحياة وأسباب الدنيا واستخدامها كشيئ خلق له وسخر لأجله ، وبين السعي للآخرة والفوز فيها كغاية خلق لأجلها .

حضارة الإسلام متكاملة

إذا نظرنا بعين التحقيق والإنصاف نرى أن الفرق الدقيق الأساسي بين النظرية المضاربة في الإسلام وبين النظرية الحضارية المادية الحديثة منها والقديمة هو النظرة إلى هذه الحياة الدنيا فإن الإسلام ينظر

إلى الدنيا كأنها مزرعة الآخرة ولا تعتبرها كل شيئ في حياة الإنسان وغايته المنشودة وبعبارة أدق أن المؤمن كوسيلة يتخذ الدنيا وسيلة للآخرة وليست هي الغاية بذاتها وأما النظرية الحضارية المادية البحتة فهي تنظر إلى الحياة الدنيا كأنها هي كل شيئ وهي الغاية والمنتهى للإنسان ولهذا نرى أصحاب هذه النظرية يمجدون هذه الدنيا ويزينونها ويتهافتون عليها ويحرصون عللى امتلاكها بكل قوة وجهد ووسيلة نبيلة وغير نبيلة حتى صارت الأمور إلى حد الفوضى والهمجية وفي هذه المرحلة نرى ميزات النظرة الإسلامية إلى الحضارة الإنسانية وأصولها وغاياتها وقد استمد المسلمون أصول حضارتهم من القرآن والسيرة النبوية وحياة الخلفاء الراشدين والصحابة الكرام وكانت تلك الأصول قد وضعت في حدود العقيدة السمحاء والأخلاق الفاضلة والإنسانية الكريمة التي كرمها الله تعالى وكانت القاعدة الأولى لحضارة الإسلام تعميم العلوم والمعارف لجميع الناس وإزالة التفرقة العنصرية والطبقية بين البشر ويجب أن تكون قاعدتها الثانية النزعة الإنسانية الخالصة والفطرة التي فطر الله الناس عليها وقد أشار القرآن إلى القاعدة الأولى : “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير” . وكما أشار إلى القاعدة الثانية بقوله : “فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون” .

بناء الكيان الإنساني السليم

وعلى أن الإسلام رسالة إنسانية جامعة وكاملة أتى بها خاتم الأنبياء والرسل محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم هداية للبشرية جمعاء ، فيجب أن تكون الحضارة التي تقوم على دعائم تلك الرسالة حضارة إنسانية عامة سليمة تهدف إلى النهضة الإنسانية المتكاملة ولا شك في أن الإنسان يتكون من روح ومادة ونفس وجسد ، ولا يتم بناء كيانه السليم إلا بالجمع بين مصالح الروح والمادة وأن أية حضارة أو نهضة علمية أو فكرية تعتني بجانب واحد منهما دون الآخر ، لا تخدم سعادة الكائن الإنساني ولا تنفعه في تصحيح وضعه في الحياة لأنه يكون بتلك الحضارة مكسور أحد الجناحين وفاقد أحد الشقين من كيانه ، ومن هنا نرى في هذه الحياة المعاصرة التي تتشدق بالتقدم الحضاري والاكتشاف العلمي وغزو الفضاء وفتح القارات والمحيطات الجنس البشري يعاني من الكثير من الفوضى الخلقية والانتحار الأدبي بل والنفسي في أرقى الدول من حيث الحضارة المادية فكان لسان حال هذه الحضارة يقول : إنها تبدو مكسورة الجناح لا تستطيع أن تطير إلى مدارج الكمال في إسعاد الكيان الإنساني .