الدعوة الإسلامية في الهند

مجلة الجامعة الاسلامية – المدينة المنورة

إن الدعوة الإسلامية وتطورها في الهند لم تكن إلا حلقة سلسلة من حلقات سلسلة هذه الدعوة الكريمة الممتدة عبر تاريخ الأمة الإسلامية ، وأن التاريخ حافل بالجهود المتلاحقة التي بذلها الدعاة العاملون لهذا الدين في كل بقع من بقاع الأرض ، فما دامت طائفة من العلماء المخلصين تقوم بالدعوة إلى الله تعمل بجد واجتهاد وإخلاص لإعلاء كلمته ونشر تعاليم كتابه وسنة رسوله ، تكون الأمة بخير وعزة وسؤدد ، وإلى هذه الحقيقة يشير الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم بقوله :”وأن العلماء ورثة الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ورثوا العلم ، فمن أخذه أخذ بحظ وافر” .

وللبحث عن الإسلام في الهند جانبان مستقلان ، يختلف كل منهما عن الآخر فبينما يتناول الأول دخول الإسلام فيها كدعوة وفكرة ، والجهود التي بذلها الدعاة المسلمون في سبيل نشرها في أوساط الأمة الهندية بطريق الموعظة والإرشاد والقدوة الحسنة ، يتناول الجانب الآخر حكم المسلمين فيها والفتوحات العسكرية التي قام بها الملوك والأباطرة المسلمون ، وأما الجانب الإسلامي كدعوة خالصة وعقيدة وعمل فهو أعمق أثرا في تاريخ الإسلام والمسلمين في شبه القارة الهندية وأوسع نطاقا من حيث البحث العلمي .

ويرجع فضل انتشار الدعوة الإسلامية في هذه البقعة الواسعة الأرجاء إلى دعاة من المسلمين العرب والهنود الذين تشبعوا بروح الإسلام السمح ، وبذلوا جهودا جبارة في سبيل نشر دين الله الحنيف في كل بقعة نزلوا فيها ، وكان رائدهم في ذلك قول الله تعالى :”ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن” وبدأت هذه الجهود الفردية في الهند قبل الفتح الإسلامي الأول الذي قام به “محمد بن القاسم الثقفي” في نحو عام 91 من الهجرة النبوية ، في شمال القارة الهندية ، فلا يرجع فضل انتشار الدعوة الإسلامية فيها إلى الملوك والأباطرة المسلمين الذين قاموا بفتوحات عسكرية في شبه القارة الهندية وشيدوا امبراطورياتهم فيها ، بيد أنهم تركوا بعض الآثار الإسلامية القيمة من المساجد الفخمة والقلاع الضخمة ، وأسدوا خدمات لإحياء بعض الفنون والآداب ، وأضافوا بابتكارات علمية وفنية في تاريخ الهند المجيد .

يشير التاريخ إلى أن صوت الإسلام قد وصل لأول مرة إلى الهند بأيدي العرب ، وكانوا هو طليعة المسلمين الذين أناروا الطريق لنشر الدعوة الإسلامية في ربوعها ، عقب ان انبثق فجرها في بلاد العرب ، فوجدت أرضا خصبة في أرجاء الهند وتفتحت زهورها ففي أنحائها وأثمرت ثمارها اليانعة في جو من الحرية والسلام .

دخل الإسلام الهند من طرق ثلاث ، من الناحية الجغرافية ومن أهمها : شواطئ الهند الغربية الواقعة في بحر العرب التي كانت مركز ارتياد التجار والرحل العرب منذ أقدم العصور ، في البلاد الهندية وفي طريقهم إلى جزيرة سيلان وإلى الصين وجاوة وغيرها من بلدان الشرق الأقصى .

والطريق الثانيالي دخل منه الإسلام إلى الهند مناطق السند الواقعة على شاطئ الهند الشمالي الغربي ، حيث دخل “محمد بن القاسم الثقفي” فاتحا في عهد حكم “الحجاج بن يوسف الثقفي” وذلك في نحو عام 91 هـ ، والطريق الثالث الحدود الشمالية الغربية المتاخمة لأفغانستان وإيران ، وأول من دخل الهند فاتحا من هذا الطريق الجبلي الوعر “محمود الغزنوي” فيما بين عامي 388-421 هـ .

ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم في العامين السابع والثامن الهجريين ، الوفود إلى التخوم للدعوة إلى الإسلام ، يحملون رسائله عليه الصلاة والسلام إلى أصحاب الأمور والسلطان في أقطار جزيرة العرب وخارجها ، يدعوهم فيها إلى حظيرة الدين الحنيف ، عرفت الدعوة الإسلامية طريقها إلى الثغور الشرقية والجنوبية ، وأخذت تنتشر بين العجم ، ومنهم الهنود المستوطنون الساكنون في هذه المناطق ، فلبى عدد منهم نداء الدعوة الجديدة .

ومن ناحية أخرى ، فإنه من الطبيعي أن يحاول التاجر العربي المسلم التحدث عن الدعوة الجديدة التي ظهرت في بلده إلى أصدقائه ومعارفه في موانئ الهند ومراكزها التجارية التي يرتادها لأغراض تجارية بل ويحاول نشرها بين أهل الهند الذين شاهد نزعتهم الدينية وحبهم للعرب ، ويشير التاريخ أيضا إلى أن بعض حكام الهند ، حينما سمعوا عن ظهور نبي جديد في جزيرة العرب ودعوته ، حاولوا إنشاء رابطة بينهم وبين النبي العربي مباشرة ليروه وليستمعوا إليه وليفهموا رسالته وتعاليمه .

وذكر بعض المؤرخين – مع وجود احتمال تاريخي وطبيعي كبيرين – أن محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، قد بعث رسالة – من ضمن الرسائل التي بعثها إلى ملوك وحكام آسيا وأفريقيا إلى ملك “مليبار” (في مقاطعة كيرالا بجنوب الهند) الواقعة في ساحل بحر العرب المواجهة لجزيرة العرب ، كما قالوا إن ملكا من ملوك هذه المناطق وهو “جيرمان برومال” ملك (كرانغلور) قد سافر إلى جزيرة العرب لمقابلة النبي عليه الصلاة والسلام ، هذا في السابع والخمسين من عمره صلى الله عليه وسلم .

والذي يفهم من هذا البيان أن تاريخ الدعوة الإسلامية في الهند قد مر عليه حتى الآن 14 قرنا من الزمن ، بينما مر 13 قرنا على قيام أول دولة عربية في السند ، وظلت الهند كلها تحت حكم المسلمين أكثر من ثمانية قرون ونصف القرن ، أي من قيام الدولة الغزنوية في سنة 392 هـ 1274 هـ (1001م – 1857 م) ، ثم استمر حكم الانجليز في شبه القارة الهندية لمدة قرن من الزمان .

طوال هذه الفترات الممتدة ، من تاريخ الإسلام والمسلمين في الهند لم تقم هيئة أو منظمة تستهدف نشر الدعوة الإسلامية وتبليغها حسب خطة مرسومة ومنهج مدروس بل وتعرضت الدعوة ودعاتها لاضطهادات جمة من جانب الحكام الانجليز – ومما هو جدير بالذكر أيضا ، مع الأسف الشديد ، أن بعض الحكام المسلمين المستبدين قد وضعوا العراقيل أمام الدعاة المصلحين .

ومن بواعث الدهشة والإعجاب للعقول العادية – إن صح هذا التعبير – أن الدعوة الإسلامية قد فاقت في انتشارها في أوساط الشعب الهندي – برغم هذا كله – جميع الدعوات الأخرى ، وتركت ملامح واضحة عديدة تشير إلى المدى الواسع الذي حققته هذه الدعوة في شبه القارة الهندية .

وكانت شبه القارة الهندية ، وقت استقلالها عن حكم الانجليز سنة 1947م أولى دول العالم في عدد المسلمين ، حيث كانت تضم أكثر من 120 مليون مسلم ، ثم قامت تقسيم شبه القارة إلى دولتين – الهند وباكستان – وصارت الهند دولة مستقلة ذات أغلبية هندوكية وأقلية مسلمة وصارت الباكستان دولة مستقلة ذات أغلبية مسلمة وأقلية هندوكية وكان عدد المسلمين في الباكستان وقت التقسيم – حوالي 80 مليونا وعدد المسلمين في الهند نحو 40 مليونا .

واليوم تعتبر الهند وحدها ثانية دول العالم في عدد المسلمين ، حيث تضم أكبر جالية إسلامية ، بعد أندونيسيا ، إذ يبلغ عدد المسلمين فيها الآن أكثر من مائة مليون نسمة ، وتليها بنجلاديش فباكستان ، وهو يشكلون أكبر طائفة في الهند بعد طائفة الهندوس ، ومن ثم لا تزال الهند جزء حيا هاما من جسم العالم الإسلامي الكبير الواسع الذي يربط بين أجزائه رباط وثيق من الرابطة الروحية والأخوة الإسلامية ، فإذا ألقينا نظرة على شبه القارة الهندية فلا نجد فيها ، مع اتساع رقعتها وتعدد مقاطعاتها ومناخها بقعة إلا ودخلها صوت الإسلام ووطئتها أقدام الدعاة وظلت الدعوة الإسلامية متمكنة في هذا البلد المترامي الأطراف ، على رغم تقلبات العصر ، ولم تستطع التيارات الخارجية أو الداخلية أن تحد من تقدمها وتطورها كما لم تفلح المحاولات العديدة التي بذلها مناهضو الدعوة الإسلامية لمنع استمرارها واستقرارها وتطورها .

ويمكن أن نلخص الأسباب الرئيسية التي ساعدت على هذا الانتشار الواسع السريع الذي أحرزه الإسلام في أرجاء الهند في النقاط التالية :

1 – النزعة الدينية لأهل الهند :

لقد أشار الإمام ” الشهرستاني” في كتابه “الملل والنحل” إلى مدى النزعة الدينية لأهل الهند ، في معرض الكلام عن أمم الدنيا وتقسيمهم حسب المذاهب والنزعات ، حيث قال “وإن العرب والهند يتقاربان مع مذهب واحد وأكثر ميلها إلى تقرير خواص الأشياء ، واستعمال الأمور الروحانية ” .

وأصاب الإمام “الشهرستاني” في تعميم حكمه على جميع أهل الهند في كل زمان ومكان ، إذ نجد جميع الديانات الهندية القديمة تلتقي من الأديان السماوية ، في نقطة الإيمان بوجود الخالق ، وخلود الروح وحسابها في الحياة الأخرى ، وإن اختلفت معها في التفاصيل ، ويرجع سر حصول الأديان والثقافات العديدة التي أتت إلى الهند في مختلف العصور ، على الترحيب الذي ساعدها على الانتشار في أنحاء هذه البلاد المترامية الأطراف ، إلى الروح المتسمة بالتسامح السائدة بين حكام الهند وقتئذ ، وإلى نزعة أهلها إلى ترحيبهم بكل ما يرد إليها من الخارج من دعوات وثقافات وأفكار .

وقد رحبت الهند في العصر القديم بالآراء المصرية واليونانية ، ثم رحبت بالمسيحية في قرنها الأول ثم بالدعوة الإسلامية حيث وجدت نوافذها مفتوحة عندما طرقها الدعاة المسلمون في عهدها الأول .

2 – صفات الدعاة المسلمين ووسائلهم :

والدعوة الإسلامية الحقة ، هي الدعوة إلى الله وإلى الأخوة الإنسانية والعدالة الاجتماعية والتسامح والبساطة في جميع مرافق الحياة ، وكان الدعاة الأوائل بعيدين كل البعد عن التعصب الديني والعنف والإكراه في كل خطوة يخطونها في سبيل أهدافهم النبيلة ، وكانوا قدوة عملية للآخرين ، وقد اتخذوا رائدهم في ذلك إرشاد القرآن الكريم :”لا إكراه في الدين”

وقوله :”ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة” .

وكان الدعاة المسلمين في شبه القارة الهندية سواء العرب أو الهنود الذين تشبعوا بروح الإسلامية السمح مظهرا حيا لما يدعون إليه من الخلق القويم والأعمال الصالحة ، حيث تأثر المدعوون بالقدوة الشخصية الحسنة ، حتى أصبح الداعون محل احترام وتقدير لدى كل طوائف الأمة وكان هؤلاء الدعاة فاتحي القلوب ، لا فاتحي البلاد ، وكانت زوايا وتكايا هؤلاء الدعاة مراكز للزائرين الذين يترددون إليها للتزود بالإشعاع الروحي والخلقي ، كما كانت تلك الزوايا مظهرا للانسجام الطائفي والأخوة الوطنية بين شتي الطوائف التي يتكون منها المجتمع الهندي الكبير ذو التاريخ العريق .

3 – نظرة الإسلام إلى الأديان الأخرى :

يقرر الإسلام مبدأ التسامح الديني والأخوة الإنسانية وعدم العنف والتعصب في الشؤون الدينية بأي شكل من الأشكال بالآيات القرآنية الآتية :

1 – “ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا ، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين” (يونس : 99) .

2 – “لا إكراه في الدين” (البقرة : 256 ) .

3 – “وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله” (يونس : 100) .

ومما لا شك فيه أن بعض الحكام المسلمين استخدموا التشدد باسم الدين نحو اتباع الأديان الأخرى ، أحيانا بمقتضيات أمن الدولة واستقرارها ، وأخرى بدافع من المآرب الشخصية ، وفي كلتا الحالتين فإن التعاليم الإسلامية والإرشادات القرآنية الصريحة كانت بريئة كل البراءة من أعمال هؤلاء ، لأنهم استغاوا الدين للأغراض السياسية – عمدا أو جهلا – فأصبحوا وصمة عار في تاريخ الدعوة الإسلامية التي لم تكتف بالدعوة إلى حرية العقيدة وحرية العباد ، بل دعت إلى التسامح في الدين والسياسة ، وحرمت على المسلمين التعرض لدين الغير وحريته العقائدية .

4 – الأوضاع العقائدية السائدة :

وكانت عامة الناس تئن تحت وطأة آفتين اجتماعيتين هما : النظام الطبقي المتطرف الذي فرق شعبا واحدا إلى طبقات ، وكذلك آفة الكهنة الذين انحدروا إلى أعمال الشعوذة والخرافات التي يرفضها العقل السليم ، فلما وصل الإسلام إلى الهند لأول مرة ، يدعو إلى العدالة الاجتماعية والمساواة الإنسانية والقوانين الفطرية التي هي الدعائم الثلاث لصرح الإسلام ، وجد عامة الشعب الهندي فيها مخرجا من الكابوس الاجتماعي البالي ، فدخلوا في الإسلام أفواجا .

وهذه هي الأسباب الرئيسية التي يرجع إليها الفضل الأكبر لانتشار الإسلام في الهند بسرعة وكثرة واستقرار جذوره في أرضها الخصبة وأصبح تاريخه جزء لا يتجزأ من تاريخ الهند المديد .

ومن الوسائل الرئيسية التي اتبعها الدعاة المسلمون في الهند في سبيل نشر الدعوة الإسلامية في جميع المراحل :

أولا : القدوة الشخصية :

اتخذ الدعاة ، القدوة الحسنة الشخصية كوسيلة رئيسية في أداء رسالتهم نحو نشر التعاليم القرآنية والإرشادات النبوية في أفراد الأمة الهندية وجماعاتها ، وتمسكوا بهذه الوسيلة اعتقادا راسخا منهم بأن إسداء النصح والأوامر بدون أن يكونوا هو القدوة الأولى لا يؤثر في القلوب ولا يؤدي إلى الهدف المطلوب ، وهذه هي إحدى الميزات التي امتاز بها الدعاة المسلمون في شبه القارة الهندية ، وكانوا دائما مظهرا حيا لما يدعون إليه من الخلق القويم والأعمال الصالحة حتى يتأثر بها المدعوون بالقدوة الشخصية والسلوك الشخصي .

وثانيا : الموعظة الحسنة :

وهي الكلام اللين المشتمل على العظات التي يستحسنها السامع ويندب للاستماع إليها وتقلبها ، وكانوا يتمسكون في ذلك بإرشاد قوله تعالى :”ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم” (فصلت : 34) فانجذب سكان البلاد إلى حظيرة الإسلام مقتنعين بصدق الدعوة وصدق الدعاة ومتأثرين بدين العدل والمساواة ، نعم وقد وجدوا في هؤلاء الدعاة أخلاقا بعيدة عن شوائب المآرب الشخصية أو المطالب الذاتية .

وثالثا : ابتعادهم عن المآرب السياسية :

وكان الدعاة المسلمون الحقيقيون في الهند ، في بعد تام عن ساحة الملوك وأصحاب السلطان كما كانوا يتبعون حياة الزهد والقناعة ولقنوا مبادئ الدين الحق للناس وعلومهم آداب الإسلام وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ، وقد أدركوا جيدا أن الاهتمام بالسياسة والاختلاط بأصحابها يلهيهم عن مهمة الدعوة الخالصة وجذبهم إلى الحزازات الطائفية والاختلافات الداخلية فكرسوا جهودهم وأوقاتهم وطاقاتهم في أمر الدعوة ، ولذا ارتفعت مكانتهم في قلوب الشعب وأصبحوا بعيدين عن نطاق التهم والشكوك .

رابعا : جهودهم الفردية :

فكان الدعاة المسلمون يقومون بإرشاد الناس إلى طريق الحق وتلقينهم مبادئه بالاتصال الشخصي ، حيث يخالطون الجماهير ويعاشرونهم ويجالسونهم ، فيتأثر سكان البلاد بأخلاقهم الزكية وآدابهم العالية فاختاروا سبيل هؤلاء الدعاة المرشدين عن انشراح صدر وطيب نفس وأن ابتعاد هؤلاء المرشدين عن ساحات الملوك والحكام وأصحاب السلطان ، قد أكد للشعب إخلاصهم في دعوتهم وبراءتهم عن أي مأرب سياسي أو مادي .

خامسا : مخاطباتهم الناس بلغتهم وبقدر عقولهم :

فكان هؤلاء الدعاة ينتمون إلى قسمين قسم هاجروا إلى الهند واتخذوها مقرا لهم للدعوة إلى الله ونشر مبادئهم الروحية ، وقبل أن يبدأوا مهمتهم تعلموا لغات القوم ودرسوا ظروفهم البيئية واتجاهاتهم النفسية وانحرافاتهم الخلقية ، لكي يخاطبوهم بلسانهم وتصل دعوتهم ، وإلى قلوب المخاطبين ومشاعرهم ، وحتى تعالج الانحرافات التي وقعوا فيها ، سواء أكانت خلقية أو اجتماعية او دينية .

والقسم الثاني، هم الدعاة الهنود الذين تشبعوا بدعوة الإسلام وأحسنوا لغة البلاد ودرسوا طبيعة قومها وبيئتها .

وهكذا اجتمعت في هؤلاء الدعاة شروط نجاحهم والصفات التي يجب أن تتحقق فيهم من نظرة الإسلام وقدوة الأنبياء والرسل ، فتوفر فيهم الخلق القويم والصبر الجميل والعزم الأكيد والإيثار والفهم الواعي للبيئات والظروف ، وكذلك امتازوا بميزة لا بد أن يتحلى بخا كل داع ليكفل لهم النجاح والنصر في دعوته ، وهي القدرة على التبليغ بلغة المخاطب بكل إتقان ولباقة وثقة .

وأن حاضر الدعوة الإسلامية في الهند يعتمد اليوم على الدعائم الثلاث الآتية :

أولاها : المعاهد الإسلامية المنتشرة في مدن الهند وقراها ، وهي بمثابة مراكز كبرى للإشعاع الديني لمسلمي الهند اليوم ، ولها فضل كبير في نشر العلوم الإسلامية واللغة العربية ويجري معظم هذه المعاهد بطريق المساعدات الفردية والتبرعات الأهلية وفيها عدد من المدارس ، والكليات التي تتلقى مساعدات من الجامعات الحكومية والجهات الرسمية .

وثانيتها : المساجد والتكايا التي تجري فيها الحلقات الدراسية الإسلامية حسب النظم القديمة ، وتعيد المساجد في الهند اليوم دورها الذي كانت تلعبه في الماضي في نشر الإشعاع الديني والثقافي للمجتمع الإسلامي وكانت محط آمال طلاب النور والعرفان في كل ركن من أركان العالم الإسلامي ، وتضم الهند آلاف المساجد التي تجري فيها الحلقات الدراسية النظامية ، تدرس فيها العلوم الإسلامية واللغة العربية كما أن خطباء هذه المساجد يلقون دروسا دينية صباح مساء ، إلى جانب دروس وخطب أيام الجمع ، وفوق هذا وذاك فإن وجود هذا العدد الكبير من المساجد العظيمة التاريخية ، التي تضاهي أفخم وأجمل المساجد الكبرى في العالم ، في أنحاء الهند ليعيد إلى أذهان مسلميها مجد ماضيهم فيها ويذكرهم بمسئوليتهم على حفاظ هذا التراث الضخم ، ولا يتأتى ذلك إلا بالمحافظة على شعائر الإسلام والتمسك بمبادئه والعمل على نشر دعوته .

وثالثتها : الجماعات والهيئات الإسلامية التي تقوم بواجب الدعوة والتبليغ ولم نر في تاريخ الدعوة الإسلامية الطويل في شبه القارة الهندية جماعة أو هيئة رسمية أو غير رسمية ، أنشئت لغرض الدعوة والتبليغ حسب منهج تبليغي منظم ، وكل ما رأيناه في مجال الدعوة هو الجهود الفردية من الدعاة المخلصين من العلماء والوعاظ الذين اتخذوا من مجالسهم وإبرازها ناصعة واضحة أمام الناس كما كانوا يقومون برحلات وجولات في سبيل نشر دعوة الحق بطريق الموعظة والإرشاد ، وفي جميع الأحوال كانوا قدوة حسنة وحية في حياتهم الخاصة والعامة للتحلي بالأخلاق الفاضلة وحسن المعاملة والإخلاص والوفاء ، كما كانوا يهتمون بتربية الناس على الطباع المستقيمة التي يدعوا إليها الدين الحنيف .

ولم يحدث تطور يذكر في الوسائل المذكورة للدعوة الإسلامية في شبه القارة إلا في القرن العشرين ، حيث ظهرت بعض الجماعات الإسلامية تهدف إلى نشر الدعوة في أنحاء البلاد ، فيمكن لنا أن نقسم هذه الجماعات ، الهادفة إلى نشر الدعوة الإسلامية ، إلى ثلاثة أنواع حسب المنهج الذي تسير عليه في تحقيق مهمتها ، فمنها جماعة تقوم بنشر الدعوة بين الناس عمليا ، بالاتصال المباشر بالناس في أنحاء البلاد ورجال هذه الجماعات يخرجون في سبيل الدعوة إلى المدن والقرى ويتصلون بعامة الناس وخاصتهم ويلقنونهم مبادئ الإسلام ويحثونهم على العمل بها .

ومنها جماعات تركز اهتمامها بنشر الدعوة الإسلامية علميا ونظريا فأصحابها يوجهون نشاطهم إلى الطبقة المتعلمة أكثر من إلى عامة الناس ، وذلك بنشر فكرة الإسلام ، بطريق الكتب والمجلات في مختلف اللغات المحلية ، بأسلوب علمي ومنطقي يجذب أنظار المتعلمين إلى مبادئ الدعوة الإسلامية وقواعد شريعتها في مختلف مرافق الحياة البشرية [1] .

إن هذه الدعائم الثلاثة الرئيسية تقف كمشاعل تنير الطريق أمام الجيل الحاضر ، وكذلك ستظل الأجيال القادمة بإذن الله تعالى ، كما أن مجرى الدعوة الإسلامية منوط بهذه الركائز في مرحلتها الحاضرة في الهند اليوم ، منوط بها أيضا مستقبل هذه الدعوة في تلك البلاد .

ويتقرر مستقبل الدعوة الإسلامية في جمهورية الهند بعاملين رئيسيين :

العامل الأول : إحساس المسلمين في الهند بواجبهم في نشر دعوة الإسلام في هذه البقعة وفي تنمية الميراث الإسلامي الضخم ، وإحساسهم أيضا بمسؤولية حراسة هذا الميراث وبها يؤدون أعظم الأمانات التي حملوها من آبائهم وأجدادهم إلى أبنائهم وأحفادهم .

العامل الثاني : إن جمهورية الهند قد اتخذت لنفسها دستورا علمانيا لا يقوم على أساس ديني رسمي ويخول الحرية لجميع المواطنين في الاحتفاظ بعقيدتهم والدعوة إلى مبادئهم ونشر ثقافتهم ، ففي وسع المسلمين نشر الدعوة الإسلامية وتنوير قلوب الملايين بها لو بذلوا في سبيلها من جهود واتخذوا لها من وسائل مدروسة ومناهج سليمة وطرق مشروعة بإخلاص وصدق نية مع أداء ما عليهم من واجبات نحو وطنهم كمواطنين صالحين .

وأيضا فإن مستقبل الدعوة الإسلامية في الهند لمرتبط بماضيها فيها فقد عرفنا أن هذه لم تنتشر في هذه البقاع بفضل حكومات المسلمين التي قامت فيها ، ولا بواسطة منظمات وهيئات قامت بنشرها أو وضعت خططه أو أنفقت فيه الأموال ، بل يعود الفضل فيه إلى أسباب أخرى عديدة ، ومنها : ما يتعلق بطبيعة هذه الدعوة من فطريتها وملاءمتها لكل زمان ومكان وظروف ، وكذلك خصائص أنظمتها الاجتماعية حيث يجد فيها كل مجتمع متنوع الأجناس ومتفرق الطبقات ، عناصر صالحة منقذة من المضار الكامنة في نظام الطبقات والعصبيات المناوئة لفطرة الإنسانية السليمة ، ومنها : ما يتعلق بطبيعة الأمة الهندية كالنزعة الدينية المتأصلة فيها وروح التسامح التي اتسمت بها الثقافة الهندية منذ القدم ، وكذلك حضارتها العريقة القائمة على الروحانية ، ومنها أيضا ما يتعلق بصفات الدعاة ووسائلهم في نشر الدعوة ، من الوعظ والإرشاد والقدوة الحسنة والسلوك السليم وابتعادهم عن المآرب السياسية والمطالب الشخصية .

وأن هذه الأسباب التي ارتبط بها انتشار الدعوة الإسلامية في الهند طوال العصور الماضية لم تتغير بعد ، وأما تغير الدول الحاكمة أو أنظمة الحكم فيها ، فليس له دخل في تلك الأسباب فما دام القائمون على مهمة الدعوة متمسكين بهذه الأسباب فسيجدون في الهند أرضا خصبة لتترعرع فيها الدعوة الإسلامية ويستطيعون أن يؤدوا واجبهم في حراسة أثمن وأقدس ما يعتز به المسلمون في كل مكان ، وهو المحافظة على دينهم وتعليمه لأبنائهم وصيانتهم في قلوبهم وبيان محاسنه لنبي وطنهم جميعا .

وأول ما نستفيده من العبرة من تاريخ انتشار الدعوة الإسلامية في الهند ، أن الإسلام دين الفطرة التي فطر الناس عليها ، وأن تعاليمه تتمشى من جميع البيئات والظروف ، ومبادئه صالحة لكل زمان ومكان ، فإن عناصر الخلود متوفرة في أصوله وقواعده ، وأن فطرة الإنسان ونواميس الطبيعة لا تتغير ولا تتبدل مهما حاول المزيفون وسعى المخرفون ليبعد الناس عن فطرتهم ، وهذا هو السر الكامن وراء الانسياق الفطري الذي رآه تاريخ الدعوة الإسلامية في مختلف البلدان المتأصلة في الوثنية والشرك والإلحاد أو في الخرافات والخزعبلات ، وكل هذا وذاك إلى جانب محاولات جمة بذلت لصد تيار هذه الحركة الإلهية العالمية وتشويه أهدافها ومقاصدها ، أو تزييف كتابها .

والعبرة الثانية من تاريخ هذه الدعوة في تلك البقعة من الأرض ، هو دور العلماء الصادقين في سبيل نشرها ومدى أثر جهودهم في توطيد دعائم العالم الإسلامي وتوحيد صفوف المسلمين وإزالة الوهن والضعف من قلوبهم ، ونستفيد أيضا ان حلقات سلسلة الدعوة الإسلامية لن تنقطع إلى يوم القيامة وهي تستمر في مد وجزر حسب تقلبات الزمن وتطورات العصر ، فهي خير مصداق لقوله تعالى “إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون” .

ويتجلى مدى انتشار الدعوة الإسلامية في الهند وتوطد أركانها في أرجائها من الملامح الخالدة التي نراها في هذه البلاد ، ومنها :

1 – انتشار مركز الثقافة الإسلامية والعربية في أرجائها ، ولا تزال هذه المراكز تتدفق حماسا ونشاطا للمحافظة على مكانة مسلمي الهند في نشر الدعوة الإسلامية وتطويرها ، التي ورثوها منذ أن استنارت الهند بنورها عقب انبثاق فجرها وتحمسوا لخدمتها بعيدين عن مآرب الحكم السياسي أو الفتح العسكري أو جاه أو مال .

2 – انتشار اللغة العربية وأثرها في اللغات الهندية وآدابها وكذلك التراث العلمي والإسلامي الخالد لعلماء الهند المسلمين ، ويبدو أثر هذا الانتشار في حركة التأليف والنشر باللغة العربية التي قام بها هؤلاء العلماء في فترات التاريخ وفي شتى فروع العلوم الإسلامية والعربية ، وكان شعار المسلمين في الهند منذ العهد الأول الاعتناء باللغة العربية والتمسك بها لكونها لغة القرآن الكريم وعلوم الدين الحنيف ، وفضلا عن أنها كانت من العوامل الرئيسية التي ساعدت على توثيق عرى التعارف والتفاهم بين الأمتين العظيمتين – الهندية والعربية .

وجدير بالذكر أن كثيرا من مؤلفات العلماء الهنود قد تخطت شهرتها جدود الهند واحتفي بها علماء العرب والعجم واعترفوا لها بالدقة والإتقان وغزارة المادة والنفع العام ، ونرى علماء الهند في بعض فترات التاريخ في مقدمة المؤلفين في العلوم الدينية وانتهت إليهم رئاسة التدريس والتأليف في فنون الحديث وشروحه وكذلك في السيرة النبوية وحكم التشريع الإسلامي .

3 – انتشار معالم الحضارة الإسلامية في جميع أرجاء الهند المتمثلة في الآلاف المؤلفو من المساجد والقلاع الفخمة التي بناها المسلمون والتي تنطق بروعة الفنون العربية الإسلامية وبراعتها .

4 – أثر الفن العربي والإسلامي – فمن أبرز الملامح لنفوذ المسلمين في الهند الأثر الذي تركوه في ميادين الفنون المختلفة ، وأما الفن المعماري فهو من أعظم مميزات عهود الحكام المسلمين فيها ، ونرى الآن في شتى انخائها قلاعا شامخة ومساجد فخمة وأبنية ضخمة من القصور والمنائر التي تمثل النبوغ الفني العربي الإسلامي .