الحكم في الهند برلماني ديمقراطي

صوت الشرق أكتوبر 1965 م

كثيرا ما نسمع عن حضارات الهند القديمة وثقافاتها المتعددة ، وأثارها الخالدة ، ومناظرها الطبيعية المختلفة ، وكذلك تسمع كثيرا عن تغيير كبير يحدث فيها منذ عهد الاستقلال ، في معالم الحياة ومقوماتها .

وأكثر من هذا يعلم القارئ أن الهند بلد شاسع كشبه القارة في اتساعه وتباين مناظره ومناخه ، وتعدد أديانه ولغاته ويمتد من جبال الهملايا في الشمال حتى رأس كومرين بالمحيط الهندي في الجنوب ، وتبلغ مساحة رقعة هذا البلد 1269640 ميلا مربعا ، وهي مساحة ثلثي قارة أوربا باستثناء روسيا وتوازي حوالي ضعف مساحات الجمهورية العربية المتحدة ، والأردن ، والعراق ولبنان مجتمعة ، ولعله يعرف أيضا أن شعبه أصبح تعداده أكثر من 450 مليون نسمة ، أي نحو سدس سكان العالم ونظام الحكم فيه ديمقراطي برلماني ، ودستوره من أحدث الدساتير ، وفي هذا العرض سيجد القارئ مزيدا من الأضواء على النظام الحاضر للحكم القائم في الهند ، المستمد من دستورها الذي أهلها لأن تكون هي الدولة الوحيدة في آسيا التي تنفرد بهذا النظام .

هذا الدستور

في يناير عام 1950 أعلنت الهند دستورها الجديد الذي ينص على أن الهند جمهورية ديمقراطية ذات سيادة ولقد اقتبس الدستور الهندي محاسن كثيرة من الدساتير العالمية ، وقد جاءت ديباجة الدستور الهندي كما يلي :

“نحن ، شعب الهند – وقد عقدنا العزم بكل هيبة وخشوع على أن نقيم من الهند (جمهورية ديمقراطية ذات سيادة) وأن نحفظ على كل مواطنيها :

العدالة : اجتماعية كانت أم اقتصادية أو سياسية .

والحرية : في الفكر والتعبير والمعتقد والدين والعبادة .

والمساواة : في الحالة والفرصة وأن ننشر بينهم جميعا .

الإخاء : مؤكدين كرامة الفرد ووحدة الأمة .

وبهذا نصدر في جمعيتنا التأسيسية هذه ونقرر ونمنح أنفسنا هذا الدستور” .

شعار الهند

اتخذت الهند عمود الأسود الأربعة شعارا للدولة ، ويرجع تاريخ هذا العمود إلى الامبراطور أشوكا في القرن الثالث قبل الميلاد ، وتقول الأسوطورة إن الامبراطور قد اتخذ هذا الشعار لدولته ليحدد معالم البقعة التي بدأ بوذا دعوته للسلام والتحرير إليها ، وهي أركان العالم الأربعة .

ويمثل هذا الشعار أربعة أسود مرتكزة على قاعدة مستديرة ، وقد أحاطت بها أربعة حيوانات أصغر حجما من الأسود القائمة بالقاعدة فأما الأسود فترمز إلى القوة والشجاعة ، وتتجه بوجوهها إلى أركان العالم الأربعة ، وأما الحيوانات الأربعة الأخرى المحيطة بالقاعدة فهي بمثابة حراس الاتجاهات الأربعة ، فالثور هو حارس الجهة الغربية ، والفيل حارس الجهة الشرقية ، والحصان حارس الجهة الجنوبية ، والأسد حارس الجهة الشمالية .

وتقوم القاعدة على زهرة متنتحة من زهور اللوتس ، وهي تشير إلى تفتح ينابيع الحياة ورخائها ، وفي أسفل هذا الشعار كتبت باللغة الهندية هذه العبارة ، ومعناها كما يلي : “النصر للحق وحده” .

العلم المثلث الألوان

يتألف على الهند من ثلاثة ألوان البرتقالي والأبيض ، والأخضر .. وتتوسط هذا الصبع حلة زرقاء فأما اللون البرتقالي ، فيمثل التضحية وإنكار الذات ، والأبيض يمثل الطهر والحق والأخضر يدل على الإيمان بالمبادئ والخصيب الذي فيه رخاء الحياة والعجلة هي رمز لعجلة العدالة والحق .

وقد وصف الزعيم الهندي الراحل “نهرو” هذا العلم بأنه يرمز إلى رسالة الحرية والإخاء ، وقال عقب انتهاء وضع تصميم هذا العلم ، واتخاذه علما جديدا للهند المستقلة فيما قال :

“لا يرمز هذا العلم إلى حريتنا نحن فحسب بل هو رمز الحرية لجميع الشعوب ، وأنه يحمل معه رسالة الحرية والإخاء أينما ذهب ، وهو يحمل أيضا رسالة تعلن للملأ أن الهند تبغي صداقة جميع الشعوب والدول …

الدستور … وحقوق الأفراد

يكفل الدستور الهندي الحقوق الأساسية لجميع المواطنين دون تمييز بينهم بسبب العنصر أو الدين أو العقيدة ، ويضمن كذلك حرية الرأي والتعبير والاجتماع وتكوين الهيئات وحق التملك وفيما يلي نص ما جاء في هذا الدستور بشأن حقوق الأفراد :

“جميع الأفراد سواء في الحقوق الآتية ، على ألا يخل ذلك بالنظام العام أو الآداب أو يتنافي مع اعتبارات الصحة العامة ، حرية العقيدة وحرية الفرد في اتباع دينه وممارسته والدعوة إليه ، وحرية إنشاء المؤسسات ذات الأهداف الدينية أو الخيرية إدارة هذه المؤسسات ، وحرية تملك الأموال وحيازتها ، سواء منها الثابث أو المنقول ، والتصرف في هذه الأموال في الحدود التي يرسمها القانون ، ولجميع الأقليات ، سواء منها الدينية أو اللغوية حق إنشاء المعاهد التعليمية التي تريدها ، والإشراف عليها ، ولا يجوز لولاية من ولايات الاتحاد الهندي عند منح الإعانات للمعاهد التعليمية إن تميز معهدا عن معهد آخر بسبب تبعية أحد منها إلى أقلية من الأقليات ، سواء أكانت ذات صبغة دينية أو لغوية .

ويفرض الدستور الهندي على الدولة أن تعمل على تحقيق الديمقراطية الاقتصادية في الداخل ، وتتمشى سياستها الخارجية مع المثل العليا ، وأن تحقق رغبة الهند في إقرار السلام العالمي ، ويقول الدستور في هذا الصدد ..

“… على الدولة أن تتجه إلى المحافظة على السلام العالمي والاستقرار بين الشعوب ، والمساهمة في إقامة العلاقات بين الدول على أسس كريمة عادلة والعمل على احترام القانون الدولي والالتزامات التي تفرضها المعاهدات في العلاقات بين الدول بعضها ببعض ، والتشجيع على تسوية الخلافات بين الدول عن طريق التحكيم والمفاوضات …

البرلمان الهندي

ينص دستور الهند على أن يكون الشعب هو صاحب السيادة المطلقة ، فهو يختار أعضاء البرلمان بطريق الانتخابات العامة التي تجري على أساس تصويت البالغين ، كما أن البرلمان يختار رئيس الوزراء الذي يؤلف الحكومة ، ويتألف البرلمان الهندي من مجلس الولايات والشعب أو بعبارة أخرى مجلسي الشيوخ والنواب ، ويتم انتخاب أعضاء مجلس الشعب بطريقة مباشرة في كل ولاية ، أما مجلس الولايات فيتم اختيار أعضائه من المجالس التشريعية في الولايات أما مجلس الشعب فيختار رئيسه من بين أعضائه ، بينما يرأس مجلس الولايات نائب رئيس الدولة بطريق مجمع انتخابي يضم أعضاء البرلمان المركزي والمجالس التشريعية في الولايات المختلفة ، ومدة رياسة رئيس الجمهورية خمس سنوات قابلة للتجديد ، ولا يجوز له أن يمارس سلطات دستورية بطريق مباشر .. فهذه السلطات من اختصاص رئيس الوزراء حيث يباشرها بوصف رئيس مجلس الوزراء ، هذا المجلس مسؤول البرلمان المنتخب من الشعب ويشترك مجلسا البرلمان المركزي في انتخاب نائب رئيس الجمهورية .

الحكم في الولايات

إن الجمهورية الهندية تتألف الآن من ست عشرة ولاية ، يضاف إليها بعض المناطق الموضوعة تحت إدارة الحكومة المركزية وقبل إعادة تنظيم الولايات كانت الهند تتألف من 29 وحدة بعد إدماج الأمارات التي بلغ عددها وقت الاستقلال 62 أمارة ، وفي عام 1954 ألفت الحكومة الهندية لجنة خاصة لإعادة تنظيم الجمهورية الهندية ، ولكل ولاية من هذه الولايات جمعيتها التشريعية الخاصة ، وفي بعض منها مجلس أعلى إلى جانب تلك الجمعية التشريعية ، وينتخب أعضاء الجمعيات التشريعية في الولايات بطريق الانتخاب العام ، الذي يقوم على أساس حق التصويت لجميع البالغين ، وعلى رأس كل ولاية حاكم يعينه رئيس الجمهورية ، وليس لحكام الولايات سلطات دستورية بطريق مباشر كما أسلفنا في سلطات رئيس الجمهورية ، ويسير نظام الحكم في الولايات على نمط النظام القائم في الحكومة المركزية ، فلكل ولاية مجلس وزرائها ويرأس كبير الوزراء الذي تختاره الجمعية التشريعية من بين أعضائها المنتخبين من الشعب ، وهو مسؤول أمام الجمعية التشيعية مباشرة .

الديمقراطية في الهند

تقوم الديمراطية السياسية في الهند جنبا إلى جنب مع الديمطية الاقتصادية والاجتماعية ويذهب أكثر من مائتي مليون من الناخبين ونصفهم من النساء ، كل ست سنوات إلى صناديق الانتخاب ليختاروا ممثليهم سواء في البرلمان المركزي أو في الجمعيات التشريعية في الولايات ، وأن الديمقراطية ظاهرة قديمة في الفكر الهندي ، ففي أيام الآريين كان الشعب يستخدم سلطاته عن طريق مجامعها العامة ، وكذلك كانت البانشايات ، أي مجالس القرى أحد مظاهر الديمقراطية المتأصلة في حياة الهند ، وكان لهذه المجامع وتلك المجالس نظمها ولوائحها لتنظيم سير العمل فيها ، وهي تشبه في ذلك اللوائح الداخلية للبرلمانات والمجالس التشريعية الحديثة .

وعلى رغم الأحداث السياسية والتقليات العصرية التي طرأت على الهند تحت حكم الاحتلال ن فإن دعامة الديمقراطية لم تتزعزع ، وقد امتازت الانتخابات التي جرت في الهند بعد الاستقلال بما كشفت عنه من رسوخ الروح الديمقراطية ، والأساليب الديمقراطية في حياة البلاد ، وحرصا على سلامة الانتخابات وصياناتها من كل تحيز أو محاباة ، أودع دستور الهند سلطة الإشراف عليها ، سواء في انتخابات البرلمان أو الجمعيات التشريعية أو انتخاب رأس الجمهورية ، في يد لجنة يعينها رئيس الجمهورية ، ويتمتع رئيس اللجنة في سبيل أداء مهمته ، بجيمع أنواع الضمانات والحصانات المماثلة لقضاة المحكمة العليا .

الدستور والمحكمة العليا

إن المحكمة الوطنية العليا هي المرجع النهائي في تفسير الدستور الهندي ، وهي المرحلة الأخيرة من مراحل الاستئناف المدني ، وهي أعلى مراتب الهيئات القضائية في الهند ، وتتألف من قاضي قضاة يعاونه قضاة آخرون يعينهم رئيس الجمهورية ، ولا يجوز عزل أحد منهم إلا أن يكون ذلك بقرار من رئيس الجمهورية بطلب من مجلس البرلمان المركزي ، وقد أصبحت الهند اليوم أكبر ديمقراطية في العالم ويجمع دستورها الحديث أحسن ما جاءت به دساتير العالم الحديثة .