أضواء على العلاقات العربية الهندية عبر التاريخ

بمناسبة احتفال الهند بعيدها القومي ال “37”

أضواء على العلاقات العربية الهندية عبر التاريخ

الخليج اليوم – قضايا إسلامية الخميس 26-يناير-1986

تحتفل جمهورية الهند اليوم (26 يناير 1986) بالذكرى السابعة والثلاثين لإعلان جمهوريتها من نير الاستعمار الإنجليزي ، وذلك في عام 1947م .

ونظرا للعلاقات الوطيدة في شتى المجالات بين الهند والعالم العربي ، منذ فجر التاريخ وقج توثقت دعائمها وتوسعت مرافقها عقب أن تحررت إرادة الشعبين العظيمين ، الهندي والعربي ، من الحكم الاستعماري الغربي ، والغزو السياسي والحضاري والامتصاص المادي والطبيعي ، بعد أن دام عدة قرون ، نرى أن المناسب بل من الواجب أن نقوم بجولة سريعة بل وشاملة حول الروابط التاريخية والحضارية والثقافية والتجارية والسياسية وغيرها من مجالات الحياة بين الهند والعرب ، لتكون عونا على مزيد من التعارف والتعاون بين الطرفين ، وأيضا ليكون لبنة أخرى في ساحة بناء صرح متين من التضامن بين الجاليات الهندية المقية في البلاد العربية وبين إخوتهم العرب الكرماء لصالح الخير العام .

بدء العلاقات بين الهند والعرب

يقول “الإمام محمد بن عبد الكريم الشهرستاني” في كتابه “الملل والنحل” في معرض تقسيم أهل العالم بحسب الأمم : “كبار الأمم أربعة العرب والعجم والروم والهند ، ثم زواج بين أمة وأمة ، وأن العرب والهند يتقاء بأن نحو مذهب واحد ، وأكثر ميلهم إلى تقرير خواص الأشياء ، والحكم بأحكام الماهيات والحقائق واستخدام الأمور الروحانية” ، وقد أحدث التقارب الجغرافي الذي يربط بين الهند والعالم العربي ، تقاربا في وجهات النظر في الأمتين ، وتشابها في نظرتهما إلى حقائق الأمور ، في تقدير قيم الأشياء ، وكذلك ساعد التقارب القديم بين اللغتين العربية والسنكسكرتية على تكامل الخصائص الفكرية والملكات النفسية لأن اللغة العربية واللغة السنسكرتية تشتملان على كلمات متشابهة للأشياء الطبيعية والصناعية ، ثم تتشابه هذه الكلمات في فروع اللغات الأوروبية المعروفة والهندية الجرمانية” ، وهكذا سبقت العلاقة بين الأصول ، الزمن الذي أدى إلى انقسام السلالة البشرية إلى القسمين اللغويين الكبيرين ” الآري والسامي” .

وقد عرف العالم حضارات ثلاثا من أقدم حضارات الدنيا وأبقاها على الأيام ، بما تركته من تراث باهر ملموس ، وهي حضارة الهند حضارة السومريين في أرض الجزيرة ، وحضارة مصر في وادي النيل واتصلت هذه الحضارات الثلاث واشتركت في كثير من المبادئ والمظاهر ، فمن الطبيعي أن تكون العلاقة بين الهند صاحبة الحضارة الأولى ، والعالم العربي صاحب الحضارتين الاخريين موطدة الأركان ومدعمة الأساس فليس في العالم الشرقي صلة بين الإقليمين على البحر تمثل الصلة الجغرافية التي تربط بينهما ، لأن الشاطئ الآخر ، فقد اتصل أهل الهند والعرب قبل التاريخ المعروف بزمن بعيد .

وتدل الشواهد التاريخية على أن هذا الاتصال القديم ، بين الهند والعرب قد ساعد على استيطان جاليات عربية في موانئ شواطئ الهند للأغراض التجارية كما استوطنت جاليات من مختلف الطبقات في أنحاء جزيرة العرب ، وكانت هذه الجاليات تعرف في عهد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بأسماء مختلفة بين العرب مثل “الزط” و “البياسرة” و”الأحامرة” وغيرها وأن تسمية أناس نزحوا من بلاد أخرى واستوطنوا بين ظهرانيهم بأسماء وألقاب عديدة في لغتهم لدليل واضح على شهرة هؤلاء المستوطنين ونفوذهم في الحياة الاجتماعية لسكان البلاد الأصليين ، ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ، فيما بين عامي السابع والثامن الهجري بالوفود إلى التخوم للدعوة إلى الإسلام يحملون رسائله عليه الصلاة السلام إلى أصحاب الأمور والسلطان في أقطار الجزيرة العربية وخارجها يدعوهم إلى الإسلام ، عرفت الدعوة طريقها إلى الثغور الشرقية والجنوبية تنتشر بين العجم ومنهم الهنود المستوطنون الساكنين في هذه المناطق ، فانضم منهم عدد كبير إلى حظيرة الدعوة الجديدة .

ومن ناحية أخرى أن الدعوة الإسلامية ، قد تطرقت إلى الهند أيضا بطريق التجار والرحالة العرب الذين كانوا يزورون موانئ سواحل الهند الغربية والمراكز التجارية فيها ، ومن الطبيعي أن التاجر المسلم الذي يزور الهند لأغراض تجارية ، والذي يشاهد نزعة أهل الهند الدينية وحبهم للتجار العرب ، لا بد أن يحاول التحدث عن الدين الجديد الذي ظهر في بلد إلى أصدقائه ومعارفه ، ويعمل لنشر تعاليمه بينهم بطريقة ودية سليمة وأشار هذه الوضع القائم بين الهند والعرب باهتمام رجال الهند من الأمراء والحكام بهذه الدعوة الجديدة واشتدت رغبة كثير منهم في إنشاء رابطة بينهم وبين صاحبها مباشرة ليفهموا رسالتها وتعاليمها فهما صحيحا ، ولا ينبغي أن يفوتنا في هذا المجال ذكر ما ورد في القرآن الكريم من بعض الأشياء الهندية وكذلك كثير من الأشياء والعادات والتقاليد الهندية التي وردت في الأحاديث النبوية ، أو ما احتوى عليها شعر الصحابة ، وغيره من التراث الأدبي العربي الإسلامي ، كما هو واضح من مطلعه كتب الحديث والسير ، وجاء في سيرة ابن هشام أنه حينما قدم “خالد بن الوليد” من نجران ومعه وفد “بني الحارث بن كعب” فلما وصلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أولهم قال : من هؤلاء الرجال كأنهم رجال الهند؟ ولم يثبت أن توسع نظاق الدعوة الإسلامية في أرجاء الهند بجهود الدعاة العرب والمسلمين الهنود .

معالم الحضارة الإسلامية في الهند

و ظلت الهند بعيدة عن أي غزو أو فتح عسكري من الخارج إلى أن وجه “محمود الغزنوي” أولى حملاته إلى شبه القارة الهندية عبر حدودها الشمالية الغربية وذلك في 392هـ 1001م ، وتابع حملاته وانتصاراته في أرض الهند حتى أقام فيها دولة غزنوية تضم جزءا كبيرا من غربي شبه القارة الهندية وشمالها وجنوب غربها وتعتبر هذه الدولة القونوية أولى دول المسلمين غير العرب في الهند ، ثم تتابعت على حكم الهند دول للمسلمين العجم واحدة بعد الأخرى من الغوريين والمماليك ، ثم التيموريين أو المغول فكان عهد الدولة المغولية التي دامت من 932 – 372هـ (566 – 1857م) أزهى عصور حكم المسلمين في شبه القارة الهندية وبلغت قوتها واتساعها جميع أنحاء البلاد ، وكانت الهند تصنع التاريخ في هذا العهد من الابتكارات والفنون والعلوم حتى صارت الهند يضرب بها المثل في مجد الحضارة الإسلامية وقوتها ، كما قال الشاعر :

لا تسل أين ابتكار المسلميــــــن فسل “الحمراء” وأشهد حسن “التاج” .

وقد بلغ مدى مجد المسلمين وحكامهم في شبه القارة الهندية إلى الحد الذي ظل فيه مندوب ملك انجلترا ، جيمس الأول ، أكثر من سنتين في الهند يحاول مقابلة الامبراطور المسلم “جهانكير” فلم يظفر بما يريد ، فتضرع أن يأخذ كتابا منه يحمله إلى انجلترا ، فرد عليه الوزير الأول قائلا “إنه مما لا يناسب قدر ملك مغولي مسلم أن يكتب كتابا إلى سيد جزيرة صغيرة يسكنها صيادون بائسون” .

وهكذا أصبحت شبه القارة الهندية كلها خاضعة للحكام المسلمين ، وحكموها حكما متواصلا ثمانية قرون ونصف وتركوا فيها خلال تلك القرون الطويلة من الآثار والمعالم الخالدة الرائعة للحضارة العربية الإسلامية مالم تزل الهند معتزة به كأعظم أثر تاريخي إنساني يفتخر به أي بلد في العالم ، وبقي الأمر كذلك إلى أن استولى الانجليز على الهند ، فأصبحت خاضعة للحكم البريطاني ، وبسبب سياسة بريطانيا التقليدية “فرق تسد” أضعفت قوة الهند القومية وفتت وحدتها الوطنية .

إذا ألقينا نظرة على شبه القارة الهندية فلا نجد فيها ، مع اتساع رقعتها وتعدد مقاطعتها ومناخها بقعة إلا ودخلها صوت الإسلام .

وتعتبر الهند اليوم أولى دول العالم في تعدد أديانها ولغاتها وتباين مناظرها ومناخها ، وثانية دول العالم في عدد سكانها (إذ تجيء حيث عدد المسلمين فهي تأتي في التركيب بعد اندونيسيا إذ يبلغ عدد المسلمين في اندونيسيا 120 مليون مسلم وأما الهند ففيها اليوم يكثر من مائة مليون مسلم) .

و هكذا يكون المجتمع الإسلامي في الهند الحاضرة جزء حيا من جسم العالم الإسلامي الذي يربطه برباط وثيق من الدين والأخوة الروحية وأنهم أكبر مجموعة من شعب الهند بعد الهندوس .

الطابع العربي في الآداب والفنون

ولم يدع الفن العربي فنا من الفنون الهندية والأولية فيها تأثير أو تشابه ، سواء في ذلك الزخرفة أو التوريز أو المعمار أو النحت والتصوير وإذا رأينا الآثار التاريخية الخالدة المتشرة في أنحاء الهند نجد الفن العربي والنقوش العربية إلى جانب الفن الهندي والنقوش الهندية ، مثل “القلعة الحمراء” ، و”المسجد الجامع” بدلهي ، و”تاج محل” والمباني المغولية العظمى في “آجرا” ومئات المساجد والقلاع والأضرحة المنتشرة في الهند ، وتتجلى في كل منها مظاهر الفن العربي ، حتى يخيل إلى الزائر في أول وهلة بأنه في أحد الأماكن التاريخية في بلد عربي .

وقد ساهم الفن الإسلامي مساهمة فعالة في تنمية الفن الهندي وأثر فيه تأثيرا كبيرا بفضل السلاطين المسلمين المولعين بالفنون الجميلة .

وتغلغلت العقلية العربية والإسلامية في تفكير كثير من الأدباء الهنود في أشعارهم وققصصم بفضل الأدباء العرب الذين هاجروا إلى الهند واستوطنوا فيها بفضل الأدباء الهنود المتبحرين في الأدب العربي وعلومه وفنونه ، وأمامنا دليلا على ذلك الكتاب الهندي الشهير “كليلة ودمنة” الذي وضعه فيلسوف هندي كبير باللغة السنسكرتية بطريقة المحاورة على ألسنة الحيوانات ، وهذه كانت طريقة مألوفة عند العرب منذ أقدم العصور .

مراكز العلوم العربية

وفي الهند اليوم عدد كبير من المعاهد الإسلامية والمدارس العربية تقوم بتدريس اللغة العربية وآدابها ، ودور خاصة للنشر والطبع والتأليف باللغة العربية ، ويقوم بعضها بتوزيع الكتب والمجلات العربية التي تطبع في البلدان العربية في شتى أنحاء الهند .

وجدير بالذكر أن الهند قد ساهمت مساهمة فعالة في سبيل نشر اللغة العربية والثقافية الإسلامية في البلاد المجاورة لها ، مثل بنجلاديش وباكستان وأفغانستان وسيلان والملايو واندونيسيا وبورما ومالديف ، ومازال طلاب العلم من هذه البلاد يفدون إلى المعاهد الإسلامية في الهند لدراسة اللغة العربية والعلوم الإسلامية .

الملامح الخالدة للروابط الثقافية والحضارية بين الهند والعرب

لقد فتح وصول الدعاة المسلمين إلى الهند بابا جديدا في العلاقات بين الهند والعرب وقد ازدهرت منذ ذلك الحين مكانة الهند في العالم العربي الذي هو طليعة الدعوة الإسلامية ومهبط الوحي المحمدي ، وأن أول بقعة أشرقت بنور الإسلام في شبه القارة الهندية هي منطقة ملابار (كيرالا) الواقعة بساحل الهند الغربي المواجهة لجزيرة العرب ، فنشأت في ضواحى “ملابار” أول جالية عربية .

وكان العرب منذ القدم مغرمين بشراء المبيعات والمنتجات الهندية حتى أن كثيرا من أسمائها امتزجت باللغة العربية وشاعت في أشعارها وقصصها ومن ناحية أخرى استطاعت الهند أن تجذب إعجاب التجار العرب ورحلتهم . وقد بلغ إعجاب العرب إلى حد أنهم كانوا يطلقون على بناتهم اسم “الهند” كما أطلقوا على أجود أنواع السيوف “السيف الهندي” وتسربت عدة كلمات هندية إلى اللغة العربية حتى قال بعض العلماء أن هناك كلمات هندية معربة في القرآن الكريم ، وقد جمع الحافظ ابن حجر العسقلاني ، والحافظ السيوطي كلمات غير عربية وردت في اللقرآن بعد تعريبها ومن هذه الكلمات “المسك” و”الزنجبيل” و”الكافور” ، وهذه الكلمات الثلاث التي وردت في القرآن في وصف أشياء الجنة ، تدل على ثلاثة أنواع من الأشياء الهندية الشهيرة .

وهكذا أعاد الاسم مرة أخرى العصر الذهبي الذي كان قائما بين الحضارتين الكبيرتين للأمتين العريقتين الهندية والعربية ، تحتل الهند الان مكانة ممتازة في العالم الإسلامي بصفة كونها ثانية دول العالم في عدد المسلمين كما أن موقعها الجغرافي في وسط العالم العربي والإسلامي الممتد من المحيط الأطلنطي إلى المحيط الهادي قد وضعه في مكانة استراتيجية هامة .

وجدير بالذكر أن أركان التعاون والتضامن بين الهند وهذه الدول قد توطدت وأصبحت مدعمة الأساس بعد أن نالت استقلالها من الاستعمار الغربي وأصبحت ذات سيادة كاملة ، وقد تعرض هذا التضامن لبعض الفتور إبان ذلك الاحتلال الأجنبي ، وها هو الآن قد دخل تاريخ التضامن والتعاون بين الهند والدول العربية والإسلامية ، مرة أخرى ، في عصره الذهبي .

اللغة العربية في الهند

وبعد ظهور الإسلام في جزيرة العرب في القرن السابع الميلادي ووصول صوته إلى الهند ثم الفتح الإسلامي بدخول القائد العربي محمد بن القاسم الثقفي إلى شمالي الهند العربي في نحو سنة 91 هجرية ، أصبحت اللغة العربية والثقافية العربية تنتشر في أنحاء الهند وتتأصل جذورها في ربوعها . وبذل رجال العرب المشبعون بدعوة الإسلام ، وكذلك الهنود الذين اعتنقوا الدين الإسلامي ، أقصى جهودهم في سبيل نشر اللغة العربية وآدابها في أنحاء البلاد باعتبارها لغة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية وهمزة الوصل بين الهند والعالم العربي .