أضواء على : التاريخ الهندي – 5

صوت الهند – القاهرة سبتمبر 1970 م

العصر الفيدي :

قسم المؤرخون العصر الفيدي إلى عهدين : العهد الفيدي القديم وهو عبارة عن بداية عصر تدوين “ريجفيدا” الذي هو أقدم الفيدات الأربعة ، إلى 1500 ق.م ، وأما العهد الفيدي الجديد فيبدأ من 1500 ق .م إلى 700 ق.م .

وإن الفيدات الثلاثة الأخيرة وشروحها المتعددة هي المصادر الرئيسية لتاريخ هذا العهد ، ويتضح من دراسة هذه الفيدات الأربعة أن هذين العهدين جزءان متكاملان لمرحلتين من مراحل التاريخ “الآري” في الهند ، وإلى جانب المعلومات التاريخية عن تلك الفترة ، تعطينا هذه الدراسة فكرة عامة عن الديانة الفيدية – أو النظام الفيدي – التي تعتبر من أقدم الديانات الوضعية في العالم .

وترجع أهمية هذه الكتب الكلاسيكية إلى كونها المرجع الشامل لحياة أمة ذات حضارة عريقة ، منذ آلاف السنين ، وهي تلقي ضوء على تطوراتها الفكرية والعقائدية والأخلاقية .

عبادة الأصنام :

ويتناول “ريجفيدا” عموما الشئون العقائدية للآريين ، فكانوا يعبدون عددا كثيرا من الآلهة ، متمثلة في القوى الطبيعية المختلفة ، مثل الشمس والريح والمطر والنار والأنهار وغيرها ، ويمكن أن تقسم هذه الألهة المعبودة إلى ثلاثة مجموعات : 1- آلهة سماوية 2- ألهة أرضية 3- آلهة جوية ، وصنعوا لكل من هذه الآلهة أصناما وتماثيل في أشكال القوى التي تمثلها ، حسب معتقداتهم فمن ضمن تلك الآلهة “سوريا” أي إله الشمس ، و”اندرا” أي إله المطر والرعد ، و”أجني” أي إله النار ، و”فارونا” أي إله السماء ، و”براجاباتي” أي إله الخلق .

وكانوا يعبدون هذه الآلهة بطريق طقوس ورسوم خاصة معروفة باسم “ياجنا” ويصحبها تقديم الهدايا والقرابين من الأطعمة والأشربة أمام تلك الأصنام .

ولكل يشير “الفيدا” إلى أن هذه الآلهة التي كانوا يعبدونها في صور القوى المختلفة ، كانت في الواقع عبارة عن المظاهر العديدة لإله واحد وهو “الحق المطلق” وكانوا يقولون بحياة أخرى بعد الحياة الدنيوية بصورة “تناسخ الأرواح” وتختلف الطقوس أو التراتيل الدينية التي تقدم أمام كل من هذه الآلهة حسب القوى التي تمثلها ، فمثلا تتناول الأدعية أو التراتيل التي تستخدم في عبادة إله وقواهم وأثارها ومنافعها ، كما تذكر طلوع الشمس وإشراقتها على الكائنات ومنحها الحياة للحيوانات والنباتات وغيرها .

النظام الاجتماعي :

وأما “الكتب الفيدية” فتذكر بالتفصيل الحياة الاجتماعية للآريين ، سواء في الشؤون العائلية أو القبلية أو الوطنية بصفة عامة ، وأن نظام الطبقات لم يكن معروفا في العصور الأولى للعهد الفيدي ، ولكنه نشأ وتطور في العصر الفيدي الأخير ، حينما قسم المجتمع إلى فئات حسب المهن والحرف ، ثم تحولت تلك الفئات إلى طبقات أربع وهي : 1 – رجال الدين أو الكهنة الذين يتفرغون لتعلم الطقوس الدينية وأدائها ، وعرفوا بطبقة “البراهمة” ، 2 – رجال الحكم والسياسة والحروب فسموا بطبقة “تشاتريا” أي المحاربين ، 3 – وأما أصحاب التجارة والصناعة والزراعة فعرفوا باسم “وايشيا” أي التجار ، 4 – وأما الطبقة الرابعة فهي أصحاب المهن الوضعية مثل مهن الكنس والتنظيف وغيرهما وهي طبقة “شودرا” وبمرور الأيام أخذت هذه الألقاب المهنية شكلا طبقيا بحيث امتنع كل منها عن الانتماء إلى الأخرى والتزاوج معها حتى أدى هذا النظام إلى انتشار عادة عدم اللمس أو المنبوذية في المجتمع الهندوكي ، وأن هذ النظام التقليدي قد أضر المصلحة العليا للهند اجتماعيا وثقافيا بل وسياسيا ، (والآن يحرم دستور الهند هذا النظام كما تبذل الحكومة والطبقة المثقفة جهودا جبارة لتطهير المجتمع والوطن من هذا النظام الخبيث الذي يهدد وحدة البلاد ووحدة الأمة والانسجام الاجتماعي ) .

مراحل الحياة :

ويقسم النظام الفيدي حياة الفرد إلى أربع مراحل : الأولى منها مرحلة التعليم أي “براهما تشاريا” وثانيتها مرحلة الحياة العائلية أي “جراهاستا” ، وثالثتها مرحلة الحياة الاجتماعية والتقاعدية ، أي “فانابراستا” ، وفي المنزلية والعائلية ويكرس حياته للعبادة والخدمات العامة ، وأما المرحلة الرابعة ففيها يعتزل تماما عن شئون الدنيا والمجتمع ويعود إلى التنسك التام وتسمى هذه المرحلة “سانياسا” .

ويفهم من هذا البيان الفيدي أن الناس كانوا – قبل آلاف السنين – في الهند يتبعون نظاما دقيقا في شؤون الحياة الفردية والاجتماعية ، كما كانوا يهتمون بالأمور التعليمية والتثقيفية والروحانية .

نظام التعليم :

وتشير كتب الفيدا إلى أن التعليم كان عاما ومجانا في ذلك العصر العريق في القدم ، إذ تذكر عن “جوروكولا” وهو عبارة عن “مدرسة أهلية عامة مفتوحة أمام أطفال جميع الطبقات ، وتدرس المواد الدينية إلى جانب الحساب والطب والرياضة وغيرها من العلوم التي يحتاج إليها الفرد لتكوين شخصية كاملة تنفع نفسه ومجتمعه ووطنه ، وكانت تلك المدرسة (جوروكولا) بمثابة مركز ديني وثقافي واجتماعي .

وبفضل هذه المراكز الأهلية انتشرت العلوم والفنون والفلسفات في الهند منذ القدم وأصبحت محط طلاب هذه العلوم من شتى أرجاء الأرض ، وأرى من خلال دراستي للفلسفة الفيدية وآراء المفكرين عنها ، أن العصر الفيدي هو الذي أرسى دعائم الحضارة الهندية القيمة التي ترعرعت في ظلها علوم وآداب إنسانية عظيمة .

(يتبع ..)