أسس التضامن والوحدة قائمة بين الدول العربية على الرغم من مظاهر الفرقة وعواملها

الشرق – الخميس 28-نوفمبر-1985م

(دراسة وتحقيق)

لقد أنشأ الإسلاكم أمته على أسس ثلاثة قوية ومتينة وموطدة الأركان وهي : وحدة المصدر ، ووحدة العقلية ، ووحدة التصور ، وبالنسبة إلى وحدة المصدر ، يقول القرآن الكريم ، الذي هو الدستور الإلهي للبشرية جمعاء :”يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس وحدة وخلق منها زوجها ، وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ، إن الله كان عليكم رقيبا” (النساء : 1) ، وقد أكد الرسول صلى الله عليه وسلم هذا المصدر العام للإنسانية كلها فقال :”كلكم من آدم وآدم من تراب” .

وأما عن وحدة العقيدة فيقول كتاب الله عز وجل :”إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون” (الأنبياء : 92) ، ووحدة التصورات والمفاهيم والأفكار تستمد قوتها ومدلولها من ينابيع الوحدتين ، الأولى والثانية ، وإلى هذه الوحدة يشير القرآن الحكيم :”إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون” .

كلمة التوحيد …. وتوحيد الكلمة

إن كلمة التوحيد هي أساس الكيان والإطار الجامع لأمة الإسلام ، والنطق بهذه مع قرار مفهومها في القلب يحدث تحولا عاما وشاملا في كيان الإنسان كله ويجعل منه كائنا يتفاعل جميع أجزائه مع مغزى هذه الكلمة الجامعة الهامة ، وأن هذا الانتماء العقدي يذيب جميع الفوارق العقدية والفكرية والنظرية الأخرى لأن الكائنات كلها لها إله واحد له ملك السماوات والأرض وإليه مصير الجميع وجميع المصير ! .

وهكذا تؤدي كلمة التوحيد إلى توحيد الكلمة بين أهل التوحيد في مشارق الأرض ومغاربها ، ومن هنا نقول إن التوحيد الذي جعله الله تعالى أساس الوحدة في الإسلام ، يجب أن يكون شعار أمة الإسلام ، ليؤكد على وحدة المؤمنين تحت شعار “إنما المؤمنون إخوة” ، وقد نقل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المفهوم القرآني لوحدة الكلمة المنبثقة من كلمة التوحيد ، إلى حيز التطبيق العملي الواضح ، وذلك من أول يوم تمكن فيه إعلان دولة الإسلام عندما حل بالمدينة المنورة وكتب دستورا لتلك الدولة ، وكانت الفقرة التالية مقدمة ذلك الدستور التاريخي :”بسم الله الرحمن الرحيم” هذا الكتاب من محمد النبي رسول الله وبين المؤمنين والمسلمين ، من قريش وأهل يثرب ، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم أمة واحدة دون الناس ، ثم تتابع الميثاق ليؤكد على وحدة المؤمنين ، ومن لحق بهم مؤمنا أنهم أمة واحدة ، وأن المشركين أمة أخرى ، وبعد إقامة وحدة الأمة في القلوب والضمائر بواسطة وحدة العقيدة ، جاءت التشريعات الإسلامية بانسجام ووفاق لتعميق بناء الأمة الموحدة بكلمة التوحيد .

مظاهر الوحدة في العبادات

إن جميع العبادات المشروعة في الإسلام يؤكد هذه الوحدة المستقرة في القلوب ، ومنها عبادات تؤكد الوحدة يوميا وأسبوعيا وسنويا في الصلوات اليومية والأسبوعية يوم الجمعة والسنوية يومي عيدي الفطر والأضحى ، وكذلك في الصيام ومشاعر وشعائر ومناسك الحج ، حيث يطوفون بيتا واحد ، في زي واحد ، وبهدف واحد ، وبشعار واحد ، ويمارس الجميع مناسك وأعمالا واحدة ، وكل هذا وذاك يكرسى معنى وحدة الأهداف والأماني بين أبناء الإسلام على الرغم من اختلاف الأشكال والألوان واللغات والجنسيات :”ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين” (الروم : 22) ، وقد أوضح القرآن أن هذا الاختلاف الذي نراه في العالم هو مظهر من مظاهر القدوة الإلهية ، ودليل على بديع السماوات والأرض ، فمن حاول التفضيل بين الناس على أساس الألوان أو الجنسيات واللغات فقد ضل سواء السبيل وحاد عن تعاليم الإسلام الحق وخرج عن الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، فما بال المسلمين المؤمنين الذين ينظرون إلى الناس على أساس الألوان والجنسيات والقوميات بعد أن أزال الإسلام تلك الفوارق من قلوبهم ومحاها بممحاة الإيمان بوحدة الخالق ووحدة خلقه إذ قال دستور الإسلام :”يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم” .

وحدة الفكر … والتصور

وبعد ترسيخ وحدة العقيدة ووحدة العبادات ، يؤكد الإسلام ووحدة التصورات والمفاهيم والأفكار بين المسلمين جميعا حيث أم مصادر تلك التصورات والمفاهيم والأفكار يجب أن تكون قائمة على دعائم التوحيد من حيث المصدر أي الخالق المطلق ، وكتابه الحكيم وسنة رسوله المبعوث لكفاة الناس بشيرا ونذيرا ، وبتحديد مصدر التلقي والاستمداد يتحد المسلمون جميعا في نظرتهم للكون والحياة والإنسان ، وينطلق تيار هذه النظرة إلى مرافق الحياة الإنسانية كلها ومجالات العادات الاجتماعية والارتباطات القومية والدولية ، وهذه الوحدة الفكرية والنظرية تلعب دورا كبيرا وهاما في توطيد وحدة الأمة وتعميق أواصر المحبة والألفة بين أفرادها وجماعاتها .

وحدة اللغة

إن هناك رابطة وثقى بين أمة القرآن الذي يتفق جميع المسلمين كيفما كانوا وأينما كانوا على حد أدنى منها ، وهي رابطة اللغة العربية ويعتزون أيما اعتزاز ، وهذه اللغة العربية التي هي وعاء القرآن والعلوم الإسلامية والثقافة العربية يحملها المسلمون معهم أينما حلوا ، وأما الأمة العربية فكانت ولا تزال طليعة العالم الإسلامي وصاحبة هذه اللغة وقاعدتها ، وبهذه اللغة تبقى وحدة الأمة العربية خاصة والإسلامية عامة ، صامدة أمام الأحداث ومنيعة في وجه التيارات الجارفة ، وكانت اللغة العربية تواجه عديدا من التحديات في عهود الاستعمار والاحتلال وأيام تسرب الوهن والضعف إلى كيان العالم العربي والإسلامي من شتى الجهات وفي سائر المجالات ، ولكنها صمدت أمام كل الأعاصير التي هبت عليها والتقليل من قوتها ومناعتها ، وفي كل فترة حالكة من تاريخ التحديات الثقافية والحضارية فيض الله تعالى لها رجالا يقومون بحفظها وصونها من الانحراف والانتقاص لأنها لغة مرتبطة بكتاب خالق الكون الذي ضمن بنفسه لحفظه إذ قال :”إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون” ، وإن هذا الضمان لم يحظ به أي كتاب سماوي غير القرآن .

إعجاز القرآن منوط باللغة العربية

ومن المعلوم بالضرورة أن القرآن كتاب معجز ، وأن تحديه لباق إلى يوم القيامة ، وأن هذا الإعجاز منوط باللغة العربية ، إذا زالت العربية عنه أو زال عن العربية ، وبعبارة أوضح ، إذا ترجم إلى أية لغة لا تتصف تلك الترجمة بصف الإعجاز ولا يطلق عليها كذلك اسم القرآن ، بل يجب أن يطلق على ما ترجم من القرآن العربي إلى لغة أخرى عبارة :”ترجمة معاني القرآن الكريم” ، فأقامت اللغة العربية عروة وثقى لا انفصام لها بين دول العالم العربي خاصة وبين أبناء الإسلام عامة ، وقد أحدثت وحدة اللغة بين العرب وحدة ثقافية وأدبية وفنية وحضارية بل وفكرية بأوسع معانيها ، وأن اللغة العربية بمثابة جسر متين ممدود متصل بين دول العالم العربي كله بحيث تجمع الأمة العربية على الدوام وتحفظ كيانها وتجمع شملها وتلتئم جراحاتها بوطئة هذه الوحدة اللغوية ، وهي أعظم وسيلة في مجال توحيد المنطلقات الفكرية والثقافية بين أصحاب هذه اللغة التي يعتز بها كل فرد من الأمة العربية من الخليج إلى المحيط والعكس .

وإلى جانب هذه الروابط وعواملها والجسور الممدود بين أطرافها ، هناك وحدة حية خطيرة أمرها ، وإن كان صغيرا في حجم الكلمة وسهلا ف التداول ، ومتداولا بمناسبة وبدون مناسبة إلا وهي وحدة المصير ، وأن مصير الأمة العربية لمرتبط ارتباطا وثيقا ، وإن حاول الواهمون لتخفيف حدتها أو ظن الظانون لصرف الأنظار عن خطورتها ، أو خطط المخططون من أعداء العرب والمسلمين لتصوير مصير كل دولة لهم وأمة منهم ، سيقرر على حدة ، وكل بما كسب رهينة ، وما هو إلا تخريف المنحرفين وتضليل المضللين ، وجاز لقائل بصير ببواطن الأمور ، وناظر بعين التحقيق والإنصاف أن يقول : الكفر ملو واحدة ، وهم يد واحدة على من سواهم ، ولن يتأتى تحديد مصير وحدة من وحدات الأمة العربية أو تقريرها إلا ويكون له ارتباط وثيق ، وأثر بعيد المدى بالوحدات الأخرى فالأمة واحدة ومصيرها واحد ، وهذا الشعور هو الذي سيكسب الثبات والاستمرارية لهذه الأمة لحفظ كيانها وجمع شملها .

لا يخشى على هذه الأمة

ومهما تكالبت العواصف العدائية والتآمرية ضد هذه الأمة لا يخشى عليها من الزوال أو الاندثار ، كما حصل لعديد من الأمم الأخرى في مثل هذه الظروف الطاحنة الطاعنة في الأعماق والجذور ، وأن هذه الأسس والضوابط التي تدعو إلى الوحدة والتضامن لم تزل قائمة ، على الرغم من عدة عوامل وبواعث للتمزق والتفرق والأمة العربية أعظم الأمم رسالة وحضارة فتكون – بحكم الطبيعة – نكستها أعظم أيضا من حيث النتائج والآثار المترتبة عليها ، وابتلاؤها في معركة أشد وأخطر .

المطلوب أمور ثلاثة !

إن المطلوب عن الأمة العربية في هذه الآونة وفي هذه الظروف التاريخية وفي هذه الصراعات العديدة في مرافق الحياة البشرية أمور ثلاثة – في نظري ، حسب علمي وفكري –

أولا : النظر بهدوء وجدية إلى مسئوليتها الحضارية الكبرى تجاه الإسلام والمسلمين بل والإنسانية جمعاء بوصفهم طليعة العالم الإسلامي وحاملي اللغة العربية وحماة المقدسات الإسلامية وأماكنها كلها .

ثانيا : التنبه إلى الألاعيب ومكائد أعداء الأمة الإسلامية والعربية لتبديد شملها ونهب ثرواتها ومصادرها الطبيعية والاستيلاء على مصائرها كلها لأسباب عديدة معروفة لدى الجميع .

ثالثا : الرجوع إلى الأخذ بأسباب العزة والقوة والمناعة ، عند نشأة هذه الأمة ، وتلك هي الأسباب التي خلقت من أرذل الأمم أفضل الأمم ومن شر أمة خير أمة أخرجا للناس ، وإنما هي قائمة وضامنة النتائج فور تنفيذها بإذن رب العالمين .