أخطار الفيضانات في الهند كيف تواجهها السلطات هناك

كيف تواجهها السلطات هناك ؟

صوت الشرق أكتوبر 1964م

تناقلت الأنباء في الأيام الأخيرة أخبار الفيضانات الخطيرة في الهند ، وأثارها الرهيبة المخربة وذكرت أن هذه الفيضانات قد تسببت في كثير من المآسي من نقص في المحاصيل الغذائية ، وتشريد المواطنين في المناطق المنكوبة بها ، ولقد يتساءل القارء :

ما هو سر هذه الفيضانات المفاجئة ، وبماذا استعدت السلطات هناك لدرء أخطارها ووقاية الموتطنين من آثارها ؟….

إننا نحاول فيما نقدمه هنا من تحريات وبينات أن نجيب القارئ عن هذا التساؤل ، ونورد طرفا مما يمكن أن يمتد إليه البحث لمعرفة الأسباب الحقيقية لهذه الفيضانات ، والوسائل الفعالة التي تحد من آثارها ، وتدرأ بعض أخطارها لعلنا نطمئن على أصدقائنا في الهند ، وعلى أن المسئولين فيها ما زالوا يدأبون ويعملون متيقظين لخير مواطنيهم كعهدنا بهم …

خرجت الهند من كفاحها ضد الاستعمار ، والحكم الأجنبي منخنة بكثير من الجروح الاقتصادية والاجتماعية ، مع أنها أكثر بلاد العالم سكانا بعد الصين ، ومليئة بالأنهار والممرات المائية ومحاطة بالجبال الشامخة المغطاة بالثلوج .وقد ظلت الهند منذ الاستقلال تصارع مشكلة الفيضانات وخطرها بكل ما لديها من وسائل وإمكانيات ، فجاء مشروع السنوات الخمس الأولى إلى حيز التنفيذ في عام 1951 بعد دراسة استمرت قرابة عامين ، فمعنى هذا المشروع أولا قبل كل شيء بالزراعة واستغلال الموارد الطبيعية في البلاد ، واستنباط القوى المحركة من مساقط أنهارها ومياهها ، وإقامة الخزانات لضبط الفياضانات وبناء السدود لدرء خطرها ، ومنع آفاتها .

وفي الهند تحدث الفياضانات المخيفة في وديان الأنهار الضخمة في موسم الأمطار الغزيرة ، حيث تتدفق مياهها من المرتفعات والسهول إلى الأنهار والبحيرات ، فترتفع مقاييسها وتغمر البقاع المجاورة لها ، وعندما تهب الرياح الموسمية فإنها تحدث أمواجا في المياه المرتفعة حتى تفيض بدرجة هائلة ، ويتوقف مستوى ارتفاع الفياضانات وانخفاضها إلى حد كبير على درجة هبوب الرياح العاصفة – المعروف أن الهند عرضة لموقعها الجغرافي – لجميع أنواع الرياح الموسمية ، فبينما تتأثر المناطق الجنوبية الشرقية بحالة الجو الساحلية للمحيط الهندي ، تتأثر المناطق الغربية بالرياح التي تهب من بحر العرب .

وأما المناطق الشمالية فكلها تتمرض لأجواء “الهملايا” التي تكون دائما مغطاة بالثلوج الكثيفة أو للسيول الجارفة .

الأنهار العديدة

وتعتبر الهند من أكثر بلاد العالم وفرة في مواردها المائية ، ومع ذلك لم تستفد بعد بكمية كافية من المياه التي تحملها أنهارها العديدة في أعمال الري وإنتاج القوى الكهربائية مع أن جهودا جبارة تبذل الآن وفق خطط مرسومة ، لتنفيذ عدد من مشروعات الري وإنتاج الكهرباء في وديان الأنهار المختلفة بطريق بناء خزانات ضخمة ، وسدود شامخة ، مثل خزان “بهاكرا نانجال” في بنجاب الذي هو أعلى خزان في العالم يقوم على نظرية الارتكاز المستقيم وهو يستطيع ري أكثر من ثلاثة ملايين فدان من الأراضي ، وتوليد أكثر من 1440000 كيلوات من الكهرباء ، وكذلك خزان مشروع “وادي دامودار” في بنغال وسيكون له أثر كبير في ضبط الفيضانات في الهند الشرقية .

كيف تواجه الفيضانات ؟

من الممكن أن تلخص التدابير التي تتخذها الهند لدراء خطر الفيضانات ومراقبتها وضبطها في وسيلتين : أولاهما : السدود التي تساعد على منع الفيضانات وانتشارها إلى أماكنتحدث فيها الخسائر في الأرواح والممتلكات والنكبات في المحاصيل الزراعية وغيرها والثانية : الخزانات لخزن المياه المنصبة من الأمطار الغزيرة ، أو السيول المنحدرة من المرتفعات .

وهاتان الوسيلتان متلازمتان لمواجهة خطر الفيضانات المتزايد الذي يمس النهضة الاقتصادية للفيضانات بوجه خاص ، وفي الهند كلها بوجه عام .

وتوجه مشروعات السنوات الخمس في الهند اهتماما خاصا نحو التخرطيط الزراعي والصناعي في الأماكن المنكوبة بالفيضانات وهناك قامت لجنة التخليط الهندية بتأيف مجلس خص للإٍشراف على شئون مراقبة الفيضانات ، ودرء خطرها ، وضبط فاعليتها واعتمدت مبالغ خاصة لتنفيذ برامج مراقبة الفيضانات في طول البلاد وعرضها بطرقة فعالة .

الخزانات

تبلغ جميلة مشروعات بناء الخزانات في الهند مائة وخمسة وثلاثين مشروعا ، منها المشروعات الكبيرة والمشروعات الصغيرة ، ولا تقف فوائد هذه المشروعات عند حد وزيادة رقعة الأراضي الزراعية ، وإنتاج القوى الكهربائية من مساقط المياه في هذه الخزانات ، بل يؤدي إلى زيادة هائلة في قدرة الهند على ضبط فيضانات الأنهار ، والتحكم في زيادتها المفاجئة ، وأخطارها المحدقة بالمزارع والحقول والمساكن ، فضلا عن الخسائر في الأرواح والأموال في المناطق الريفية الواقعة في الأماكن المنخفضة وضفاف الأنهار .

القنوات المائية

ومن الإجراءات التي اتخذتها الهند لعد تيار الفيضانات الخطرة ، ومنع انتشارها ، وتخفيف حدتها ، بناء شبطة من القنوات المائية الداخلية ومنها القناة المائية التابعة لمشروع وادي دامودار التي تمتد إلى ولايتي بيهار والبنغال الغربية ، لمسافة 85 ميلا ، وقناة أخرى في ولاية راجستان بطول 291 ميلا ، ولم تغفل الهند العناية بمشروعات الري .

زيادة السكان

ويرجع تاريخ مشكلة الفيضانات إلى عهود بالغة في القدم ، وعواملها وأسبابها من هبوط الأمطار والسيول الجارفة وهبوب الرياح العاصفة التي تزخر بها البحار وهي قديمة قدم التاريخ ولكننا ما كنا نسمع عن نكبات الفيضانات وخسائرها في الأرواح والممتلكات كما نسمع الآن ، ولعل السبب في ذلك أن زيادة السكان في وجه الأرض قد تطلبت مزيدا من العمران وتوسيع رقعة المناطق السكنية واستغلال مساحات واسعة من الأراضي المهجورة أو البور للأغراض الزراعية ومعظمها كان من قبل عرضة لمياه الفيضانات ، ولكنها لن تكن مزروعة أو آهلة بالسكان ، كما هو الحال اليوم فالخطر كان موجودا دائما وأنا الذي حدث أخيرا فهو اضطرار الإنسان للإقامة حتى في أمكنة الخطر ولكن يتحتم على الإنسان الآن – في ضوء الحالات الراهنة – أن يتخذ التدابير لمواجهة هذا الخطر ، والوقاية منه بكل الوسائل الممكنة .

الإصلاح الزراعي

لقد سارعت الهند عقب استقلالها إلى إصدار قوانين الإصلاح الزراعي ووضعت لتحقيق هذا الهدف سياسة خاصة لحيازة الأرض للفلاحين ، وإلغاء نظام الوسطاء الزراعيين وفلاحي الأرض وتيسير شراء الأرض وتمليكها لصغار المستأجرين نظير دفع تعويض ملائم لأصحابها على إقساط سنوية ،ودعم النظم التعاونية في الإنتاج الزراعي ، وفي تسويق الحاصلات واستثمار موارد الأراضي الزراعية على أساس من الجهد المشترك ، وقد أدت هذه السياسة الإصلاحية إلى توسيع المناطق المزروعة وإكثار مشاريع الري وتوليد القوى وبالتالي إلى الإصلاح القروي الشامل ، ورفع مستوى الحياة الاقتصادية الاجتماعية في القرى والأرياف ، وهذا التوسع في رقعة الأراضي المنزرعة يقتضي تنفيذ مشروعات الري المختلف التي تهيئ للبلاد ريا منتظما ، وتوفر لها وسائل توليد الكهرباء من القوة المائية المنحدرة من الخزانات العديدة سواء للإضاءة ، أو لإمداد المصانع الحديثة .

فالهند من أغنى بلاد العالم ثروة في الفحم والحديد والمنجنيز ، وهذا قد يخلق منها دولة صناعية كبرى وأنهارها تصلح لإنتاج القوى المحركة للمصانع الحديثة ، وأن السدود والخزانات التي تقام بقرب مساقط مياهها لاستنباط تلك القوى تساعد أيضا على ضبط الفيضانات المتكررة كل عام .

هيئة لمراقبة الفيضانات

ومن دلائل اهتمام الحكومة الهندية الشديد بمواجهة الفيضانات ، إنشاء مصلحة خاصة لمراقبة الفيضانات في مختلف أنحاء البلاد بواسطة عمل الإرصاد للتقلبات الجوية ، ومقاييس منسوب المياه في مختلف الأنهار .

ومن مهمة هذه المصلحة أخطار الجهات المختصة عن الأحوال الحوية التي تؤدي إلى نزول الأمطار ، وارتفاع مناسب المياه في شتى الأشهر لتكون على أهبة الاستعداد لاتخاذ الإجراءات الكفيلة لتفادي خطر الفيضانات ، وإيصال المعونات اللازمة إلى الأماكن المعرضة لها .

وأنشأت الحكومة محطات المقاييس في النقط الاستراتيجية في قواعد الأنهر لكي تساعد في ضبط الفيضانات وتفادي أضرارها بطريقة منتظمة وفعالة ، وفي حالة حدوث ارتفاع خطير المحطات بإنذار سكان المناطق المتعرضة للخطر لإخلائها حتى لا تحدث خسائر في منسوب المياه في نهر تقوم هذه وفي الوقت نفسه تخطر الحكومة ومصلحة مراقبة الفيضانات باتخاذ الإجراءات السريعة لمواجهة الموقف .

إغاثة المنكوبين

تسبب الفيضانات نوعين من الخسائر لمباشرة تساقط المباني وغرق الأراضي مع محاصيلها ، وعطب السكك الحديدية الجسور وتعطيل الأسلاك التليفونية غيرها من الخسائر المادية .

وأما التعطيل والعرقلة والركود الزراعة والتجارة أثناء فترة الفيضانات الذي يحدث في ميادين الصناعة وعمليات الإغاثة ، وفهو من الخسائر غير المباشرة التي تتكيدها البلاد نتيجة لها ، وهذا فضلا عن انتشار بعض الأمراض والأوبئة .

وتلخص الإجراءات التي تتخذها الهند تجاه هذه المشكلة في ثلاث نقاط رئيسية : 1 – الإجراءات اللازمة لمواجهة الخسائر المباشرة من إعادة بناء الأماكن المتهدمة ، وتعويض المنكوبين بغرق محاصيلهم الغذائية ، وإصلاح الطرق والجسور وغيرها من وسائل المواصلات التي تعطلت بسببها .

2 – الإسراع في إعادة النشاط التجاري والصناعي والزراعي ، والذي طرأ عليه الركود بسبب شل الحركة خلال فترة الفيضانات ، وإيصال المساعدات اللازمة لاستئناف نشاطها العادي .

3 – اتخاذ التدابير الكفيلة بمنع تسرب الأمراض والأوبئة من الأماكن المنكوبة إلى الجهات الأخرى ، وذلك بتطعيم أهالي المناطق المتأثرة بالفيضانات بالأمصال الواقية ، ونقل المصابين إلى مصحات خاصة تفاديا المعدوي .

وإلى جانب الإجراءات العديدة التي تتخذها الحكومة لدرء خطر الفيضانات في البلاد ، وتخفيف حدة أضرارها ، يضطلع الجيش الهندي والبوليس بالعمل متكاتفين متعاونين ، مع المتطوعين من الأساتذة والطلاب والعاملين من مختلف دور الحكومة لإغاثة المنكوبين وتقديم المعونات إليهم ، وهذا التعاون الوثيق بين الجهازين الرسمي والشعبي ، إلى جانب التدابير المدروسة المنتظمة تسهم بصورة فعالة في تخفيف حدة أخطار الطبيعة وتؤدي شيئا فشيئا إلى تفادي تكرارها وتضييق نطاق خسائرها في الأعوام المقبلة .